تُعد مسرحية (التَّيهُ) للكاتب والأكاديمي البصري (حيدر علي الأسدي) وإعداد وإخراج الفنان الشاب (علي جيوان) من المسرحيات الثورية النقدية للواقع، إذ إنها لامست الهم المجتمعي الآني، عبر تناولِها حالة َ(التيه) الذي يعيشه الشعب العراقي بفعل السِّياسات الهجينة السائدة. وقدمت مؤخراً من قبل معهد الفنون الجميلة في محافظة الديوانية.
فكرة المسرحيَّة: تتلخص فكرة المسرحية بوجود شاب يتحدث بعدد من أحاديث مرمّزة يشير عبرها إلى أسباب ما وصل إليه الوضعُ في (العراق) وأغلبها عبارات استفزازية واستهزائيّة واستنكارية، فيرد عليه رجل آخر يمثل ضميره أو ذاته، فتنشأ بينهما حوارات وأحدُهما يوجه اللوم إلى الآخر، ولم يتوصلا إلى حل؛ تنتهي المسرحية بموت الشاب الأول.
لغة العرض: تحتوي المسرحية على مشهد استهلالي مكوّن من جزئين: الأول، كان عبارة عن عرض فيلم قصير عبر (الداتاشو) يلخص المسرحية، عبر عرض شخصية بطل المسرحية والرجل الآخر في مكان مهجور ومكشوف يخلو من الناس، ويسير الشاب، بطريقٍ ترابية، محددة بشريط مروري لتوجيه المارة، كما يدلل على منعهم من اختراق الطريق المحددة، وهذا يشير إلى الهيمنة التي يمارسها من يدعي الحكم عبر استباحة حقوق الآخرين وسلب الحريات، فيسير الاثنان وينتهي المشهد بموت الشاب. أما الجزء الثاني من المشهد الاستهلالي، فيكون على خشبة المسرح عبر ظهور شابين يتحركان بحركات عشوائية مع ظلام تام وتكرار إضاءة المسرح باللون الأحمر بشكل ومضات سريعة، لتحقق حركة متقطعة لحركة الشابين، والتي تعبر عن الرفض للواقع والمحاولة للتخلص منه على الرغم من الخوف الطاغي، الذي عبر عنه باللون الأحمر.
ثم يظهر الشاب وهو جالس على كرسي في وسط المسرح مواجهاً الجمهور، ويظهر فوقه (فأس) وكأنه في جلسة تحقيق، ويعبر بحواره عن رفضه للجميع، بطريقة رمزية مشفرة، فالحوار يعج بالدوال الناقدة للوضع القائم، والذي بسببه يعيش ذلك الشاب حالة الانهيار العصبي والنفسي، كونهُ يمثل طبقة واسعة من الشباب العراقي. ففي أحد الحوارات يقول الشاب الثاني «بسخرية»: تأكد من ذلك بنفسك.. ربما أنت سجين! أو انتظر ربما أنت مهاجر غير شرعي (يضحك) ربما أنت في مستشفى الأمراض العقلية) وهنا يظهر التحريض مباشراً لاستفزاز المتلقي فكم من مهاجر لدينا؟ وكم من سجين لدينا؟ وكم من هو في مستشفى الأمراض العقلية وهو صاحٍ؟ وهو دعوة إلى الجمهور واستهداف له، لأنه يتأمل واقعه. وفي حوارات أخرى يقول الشاب الثاني (بصوت مرعب): ربما أنت ميت!. الشاب الأول: أنا صامت منذ سنوات.. فالدعوة إلى التحرك واضحة عبر تلك الاستفزازات المباشرة، فما ذكر من حالات الخنوع والاستسلام السائد على أرض الواقع، لا بد من عمل مثير لانتشاله وتغييره. فقد وفق المخرج في اختياره الموضوع وتناوله في هذه المرحلة.. وفي حوارٍ آخر يقول الشاب الأول: (أجل هؤلاء الذين يرفضون مصافحة النساء ولكنهم صافحوا المال الحرام بقوة) وهذه الحالة التي بات يعرفها جميع الشعب العراقي، فهي الثيمة السائدة للوضع السياسي الحالي، ولا بد من التحرك لرفضها وبشدة من خلال جميع الوسائل المتاحة للشعب، فالمباشرة، فلا بد من وضع حد للاستحمار الذي تُمارسه مجموعة من الإمعات (المتسترين بالدين) والذين يتظاهرون بالعفة والالتزام الخلقي من جهة، وفي الجهة الأخرى سرقوا مقدرات بلد بأكمله واستباحوه، فهذه بحد ذاتها جريمة بل هي مِن جرائم العصر التي مارسوها عبر سرقة أعمار شعب بأكمله. كما أن الشاب الأول يتساءل بين الحين والآخر عن (البوصلة) والتي وفق ذكرها ضمن الواقع المسرحي للاستدلال على الاتجاه الصحيح ليتخلص من (التيه)، إلا أنها كانت اشارة واضحة لضرورة اكتشاف الحل الذي ينبغي أن نتبناه في الواقع الحالي، فالبوصلة جاءت كإشارة للدلالة على معان عديدة وأهمها التفكير المغاير الذي ينبغي أن يتبناه المتلقي في التعاطي مع الواقع. فالبوصلة هي الرمز الملازم للعرض المسرحي، وهو التعبير عن ضرورة اتقاد الضمير والوعي بما يدور واتخاذ قرار بشأنه من أجل التغيير، والذي بدوره سيصحح المسار وينتشل ذلك الواقع منذ التيه الذي تعاني منه الأغلبية.
الإضاءة: جاءت الاضاءة متوائمة مع روح النص، معبرة عن الرسائل المضمرة، وخصوصاً استخدام البقع الضوئية، التي أضافت جمالية واضحة للعرض عبر تركيز الاهتمام على الذروات. إلا أن الجو العام كان مظلماً ومبالغا به، وإن كان متعمدا من قبل المخرج، إلا أنه ينبغي بأن يكون وجه الممثل وجسده واضحاً للجمهور.
الأداء التمثيلي: كان متوائماً ومعبراً عن محتوى النص، فالممثل الأول والثاني كانا مندمجين مع رسالة النص بصورة عامة ومتبنيين سمات شخصيتهما التي جسداها. فالحركة والإلقاء وإيماءات الوجه جاءت مقنعة ومؤثرة.
الرؤية الإخراجية: تبنى المخرج فكرة النص بصورة جادة، ثم قام بعملية الإعداد، فقد قام بالحذف والإضافة والاستبدال وكان موفقاً بذلك، إلا أنه وقع في ( فخ المبالغة في التكثيف) أي أن العرض مدته تقريباً (16 دقيقة)، وفق الفكرة العامة للمسرحية؛ كان من المفترض أن يكون نصف ساعة، فمجمل الأفكار التي عرضت كانت تسير بصورة سريعة، فلم يعطِ مسافة لاشتغال الفعل الدرامي ليكون أكثر تأثيراً، ففي هكذا عروض، وهكذا نصوص مسرحية تعمل وفق سياقات الرمز، ينبغي إعطاؤها بعداً زمنياً ليحقق الهدف المضمر من العرض المسرحي.
{ كاتب وناقد عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك