بقلم: د. غريب جمعة
عرفنا أن سورة الإخلاص أثبتت-على قصرها- الوحدانية لله تعالى وأنه هو وحده المقصود في الحوائج وأنه لم يلد أحدًا ولم يولد من أحد وليس له نظير أو كفء في ذاته وصفاته وأفعاله.
وعرفنا أيضًا أن من أسمائها «سورة الأساس» والمقصود بالأساس هو التوحيد لأن توحيد الله جل جلاله في ذاته وصفاته وأفعاله هو أساس العقيدة الإسلامية.
لذلك لم يكن عجبًا أن يقول العلامة الكبير الفنان الفرنسي العالمي الأستاذ/ أتيين دينيه الذي اعتنق الإسلام واختار اسم ناصر الدين بعد ذلك ولقد كان الرجل يرحمه الله ناصر الدين بحق (تقدم الحديث عنه على صفحات هذا الملحق الإسلامي الأغر).
يقول الرجل: «الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي لم يتخذ الإله فيه شكلًا بشريًا أو ما إلى ذلك من الأشكال. أما في المسيحية فإن لفظة «الله» تحيطها تلك الصورة الآدمية لشيخ طاعن في السن قد بانت عليه جميع دلائل الكبر والشيخوخة والانحلال (انحلال القوة) فمن تجاعيد بالوجه غائرة إلى لحية بيضاء مرسلة مهملة تثير في النفس ذكر الموت والفناء وتسمع الجميع يصيحون: (ليحَيْى الله).
فلا نرى للغرابة محلاً ولا نعجب لصيحاتهم وهم ينظرون إلى رمز الأبدية الدائمة وقد تمثل أمامهم شيخًا قد بلغ أرذل العمر فكيف لا يخشون عليه من الهلاك والفناء وكيف لا يطلبون له الحياة؟!.
كذلك (ياهو) الذي يمثلون به طهارة التوحيد اليهودي فهم يحيلونه في مثل تلك المظاهر المتهالكة التي تراها في متحف الفاتيكان ونسخ الأناجيل القديمة المصورة.
ثم يختم الرجل كلامه بقوله في كتابه الذي ألفه عن الحج بعد أن أكرمه الله بحج بيته الحرام: «لو كان الإسلام الحقيقي معروفًا في أوروبا لنال من العطف والتأييد أكثر من أي دين آخر لأنهم يجدون فيه عزاء وسلوى من غير أن يحول بينهم وبين حريتهم التامة في آرائهم وأفكارهم».
وما أروع ما قاله الإمام الغزالي في هذا الموضوع الجليل في كتابه «التبرالمسبوك» تحت عنوان: «تنزيه الخالق».
«أعلم أن الباري تعالى ليس له صورة ولا قالب وأنه تعالى لا ينزل ولا يحل في قالب، وأنه تعالى منزه عن الكيف والكم وعن لماذا ولم؟ وأنه لا يشبهه شيء فكل ما يخطر في الوهم والخيال والفكر من التكييف والتمثيل فإنه يتنزه عن ذلك لأن تلك صفات المخلوقين وهو خالقها فلا يوصف بها.
وأنه تعالى جده (تعالى جلاله وعظمته) ليس في مكان ولا على مكان فإن المكان لا يحصره وكل ما في العالم فإنه تحت عرشه وعرشه تحت قدرته وتسخيره فإنه قبل خلقه للعالم كان منزهًا عن المكان وليس العرش بحامل له بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته.
وإنه تقدس عن الحاجة إلى المكان قبل خلقه للعالم وبعد خلقه وأنه متصف بالصفة التي كان عليها في الأزل ولا سبيل للتغيير والانقلاب إلى صفاته.
وهو سبحانه متقدس عن صفات المخلوقين منزه وهو في الآخرة مرئي كما نعلمه في الدنيا بلا مثل ولا شبه كذلك نراه في الآخرة بلا مثل ولا شبه. لأنك تلك الرؤية لا تشابه رؤية الدنيا (ليس كمثله شيء).
ولنقرأ معًا هذه الأبيات التي نظمها أحد الشعراء العارفين بالله الموصولين به تبارك وتعالى حيث يقول:
تبارك الله في علياء عزته فكلَّ كُلُّ لسان عن تعاليه
لا كون يحصره لا عين تنظره لا كشف يظهره لا جهر يبديه
حارت جميع الورى في كنه قدرته فليس يدرك معنى من معانيه
سبحانه وتعالى في جلالته وجل عزًا ولطفًا في تساميه
(انظر مجاني الأدب جزء2 صفحة 5)
لكن الشيطان يعز عليه أن يؤمن الإنسان بعقيدة التوحيد والتنزيه لله تبارك وتعالى إيمانًا يصل به إلى درجة اليقين الذي لا تزعزعه الشدائد ولا الشبهات. لذلك لا يفتأ يوسوس بالسؤال تلو السؤال لعله يظفر بغفلة من هذا المؤمن فيزحزحه عن عقيدته ليكون من جنده فيهلك مع الهالكين.
وينبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ويحذرنا من تلك الوساوس المهلكة. فعن أبي هريرة رضي الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتبه» (أخرجه البخاري ومسلم).
وما أعظم الذين يجاهدون بقلوبهم وأنفسهم وأفكارهم وعقولهم من أجل الوصول إلى معرفة مكون الأكوان جل جلاله الحق الأزلي الواحد الأحد. هؤلاء هم صفوة البرية وخلاصة نماذجها ورفعة أعاليها، هؤلاء هم الذين يقول الله فيهم: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). (العنكبوت/69).
فالله مع المحسنين وهو حتمًا هاديهم إلى الصراط المستقيم صراط الإيمان الحق والطريق القويم.
يقول العلماء العارفون بالله:
المجاهدات تورث المشاهدات.
ولا شك أنها المجاهدات التي في الله مصداقًا لقوله تعالى «فينا» وليست أية مجاهدات.
ولا شك أن من أوائل هذه المجاهدات المجاهدة لنشر كتاب الله وتعريف الناس بالإسلام الصحيح وينبهنا الحق تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: (وَإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ) (الزخرف/44(.
يقول الشيخ المراغي يرحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «أي وإن هذا القرآن لشرف عظيم لك ولقومك يا محمد لأنه نزل بلغتهم على رجل منهم فهم أفهم الناس له فينبغي أن يكونوا أسبق الناس إلى العمل به وسوف يسألهم الله عن حقه وأداء شكر النعمة فيه».
ثم يزيد الأمر وضوحًا فيقول: «إن القرآن نزل بلغة العرب، وقد وعد الله بنشر هذا الدين وأبناء العرب هم العارفون بهذه اللغة، فهم الملزمون بنشرها ونشر هذا الدين للأمم الأخرى، فمتى قصروا في ذلك أذلهم الله في الدنيا وأدخلهم النار في الآخرة، فعسى أن يقرأ هذا أبناء العرب ويعلموا أنهم هم المعلمون للأمم فيبشروا بهذا القرآن ويكتبوا المصاحف باللغة العربية، ويضعوا على هوامشها تفاسير بلغات مختلفة كالإنجليزية والألمانية والروسية وغيرها من لغات العالم حتى تعرف الأمم كلها هذا الدين معرفة حقة خالية من الخرافات التي ألصقها به المبتدعون وتعود سيرته الأولى وما ذلك على الله بعزيز».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك