الشخصيَّات المؤثرة تأثيرًا إيجابيًّا في الواقع الثقافي البحريني غالبًا ما تعمل باجتهادٍ يُغذّيهِ الشغَف، تُقدِّم الهِبات السخيَّة من ذاتها ومشاعرها ووقتها لإنعاش الأجواء الثقافيَّة والإبداعيَّة المُرحِّبة باستقطاب عامَّة الناس والمُساهِمة في الارتقاء بذائقتهم دمن ون توقُّعات بأي مُقابلٍ غير المردود المعنوي المتولِّد عن محبَّة الجمهور والاستمتاع برؤية البهجة المُرتسِمة على ملامحه. تلك الشخصيَّات التي لا تدَّخِر فُرصةً لبذل أقصى ما بوسعها في خدمة الإبداع والثقافة تستحقُّ أن تحظى بتقدير الأقلام المُنصِفة القادرة على النظر لمُنجزاتها من زاوية رؤية تلتزم أقصى قدرٍ من الأمانة، وهذا النوع من التقدير المعنوي هو «أضعفُ الإيمان» لا سيَّما إن كان لإبداعها نصيب من الاستضافة عبر وسائل إعلام أخرى خارج بلدها مثلما استضافت إذاعة (صوت العرب) من القاهرة الفنان والمثقف والمُبدع البحريني (عيسى هجرس) في برنامج (نقوش على جدار الوطن)، ووصفتهُ مُقدمة البرنامج (الدكتورة/ منال العارف) بأنهُ « اجتمع فيما يقدمه حسن اختيار الكلمات المُعبِّرة وبلاغة الأداء وعُمقِه» وأضافت مُحتفيةً بصوتِه عبر أثير الإذاعة: «نُرحبُ بنقوشك وبصماتك وإنجازاتك المتنوعة في كثيرٍ من المجالات، والتي تصب في مصلحة مملكة البحرين وفي مصلحة الوطن العربي بصفةٍ عامَّة».
كيفَ لا تُرفرف مشاعر المُستمع البحريني أو الخليجي فخرًا وسعادة بينما يُنصتُ الناطقون بالعربيَّة من مُختلف أنحاء المعمورة لمُثقف ومُفكِّر وفنَّان شرَّف هذه الأرض المُتدفقة دائمًا بالإبداع وكانت مُنجزاته من أسباب التأكيد والتذكير بأن لها حضارة وثقافة لا تقل عن حضارة وثقافة غيرها؟ كيف لا نشعُر بالعنفوان وهم يسمعون عن مُنجزات مُبدعٍ ترَأسَ القسم الثقافي والفني بـ (نادي اتحاد الشباب) و(نادي الخليج) بين عامي 1975م- 1979م، وكان رئيسًا للقسم الموسيقي في (نادي المحرَّق) من عام 1985م إلى عام 1987م، ساهم في إرساء دعائم تأسيس فرقة موسيقية ومسرحية انطلَقَت حاصِدةً النجاحات في حفلاتها الموسمية خلال الصيف والأعياد والمُناسبات الاحتفاليَّة، ثم انتُخِبَ عضوًا إداريًا في (جمعية الموسيقى البحرينية) عام 1994م بذلَ خلالها ما بوسعه للنهوض بالقوانين والتشريعات في سبيل خدمة الفنَّانين، لكن ظروف المرحلة لم تكُن مُلائمة لتحقيق تلك الطموحات العالية بما فيه الكِفاية، وكان أمينًا عامًا لـ (مركز عبدالرحمن كانو الثقافي) على مدى 15 عامًا وأحد أعضائه المؤسسين، ولا ينتهي الكلام إن تحدثنا عن مُنجزاته الشخصية في الإبداع الفني والثقافي التي كان أبرزها خلال هذا العام إطلاق كتاب (السرايات) من تأليفه.
في بلدان أُخرى – منها مصر على سبيل المثال- نال كثيرٌ من المُبدعين حظ التأريخ الكافي لفترتهم الزمنيَّة بأقلام إعلاميين أو أصدقاء يُصاحبونهم خلال تفاصيل حياتهم الإبداعيَّة وشيء من حياتهم الشخصيَّة، منهم الأساتِذة وجدي الحكيم ومُفيد فوزي ومحمد عشوب وآخرون، لكن يندر وجود مثل هذا التأريخ المُنصِف في الخليج عمومًا والبحرين خصوصًا؛ ما يحرم الراغبين بمعرفة لمحات من تاريخ هذا المُبدِع مُستقبلاً فُرصة استكشاف جوانب من شخصيته المؤثرة في مسيرته الإبداعيَّة، لذا سيُحاول قلمي تأدية الأمانة الواجبة للإبداع والثقافة بتسليط الضوء على جوانب تستحق الالتفات إلى الشخصية الإبداعيَّة لهذا الإنسان، مع الحرص على أن تكون المعلومات المذكورة من باب «ما شهِدنا إلا بما رأينَا»، بحيث لو سُئِلَ أي شخصٍ مُحايِد ممن عاصروا هذه المرحَلة بوجهٍ خاص من شخصية هذا الفنان عن أي معلومةٍ مما يُذكر هُنا تكون إجابتهُ التأكيد على صحتها.
يمتاز الفنان عيسى هجرس بشخصيةٍ يُمكن اعتبارها فريدة من نوعها وِفق مقاييس عصرنا الحاضِر، إنهُ ذاك الإنسان الذي حقق مُعادلة تكاد تكون أقرب إلى المُعجزة باتفاق جمعٍ هائل من مُختلف الأطياف البشريَّة والتوجهات الفكرية والمُعتقدات الإنسانية على محبته والاستئناس بصُحبته والاستعداد لملء القاعات بحضور أي فعالية ثقافية يكون هو نجمها أو مُقدمها، وما كانت تلكَ المحبَّة والثقة منهم إلا انعكاسًا لمشاعره الداخليَّة المؤمِنة بقيمة الإنسان الذي يتعامل معه بصرف النظر عن مُعتقداته الشخصيَّة، وهو ذاك المثقف المُشجِّع تشجيعًا مليئًا بالحماسة كُل موهبة أصيلة يُصادفها في طريقه بكرم نفسٍ لا يُقصي أحدًا ولا يخشى أن يحتل مكانهُ أحد، تراهُ يهبط من مسرحِه في أمسية يكون هو سيّدها ليُسلِّم على من يعرفهم واحدًا واحدًا بلطفٍ واهتمام ينم عن شخصيَّة مُعافاة من عُقدة انتظار أن يبدأ الآخر بالسلام كما يفعل بعض نجوم الوسط الثقافي، وبينما يحرصُ كُل الحرص على مشاعر السامع من كلمة يتفوَّهُ بها أو رأيٍ يُفصِحُ عنه إلى درجةٍ تلمحُ فيها أنهُ يُعملُ فكرهُ بضع ثوانٍ لاستبدال كلمةٍ بأرقِّ منها قبل أن ينطقها، أو لشرحِ الفكرة التي يود طرحها على السامعين بطريقةٍ غير مُباشِرةٍ توصِل لهم المضمون من دونَ أن تجرحهم، يتبادل الدعابات والنكات مع الحاضرين من أصدقائه ورفاق عمره بعفويةٍ مُشاغبةٍ تخلو من التكلُّف، ورغم مستوى ثقافته الرفيع الذي تلمسه من سطور كتابه «السرَّايات» أو من أحاديثه عن شؤون ثقافية في مُناسباتٍ تستقطب جمهور المُثقفين والمُبدعين المُحترفين؛ إلا أنهُ يتعمد النزول درجةً إلى مستوى المُنصِت البسيط حين يوجه حديثه إلى جمعٍ من عامَّة الناس مُتجنبًا حواجز التواصُل بينه وبينهم. إنهُ من القلائل الذينَ اختاروا الاندماج مع مُختلف طبقات المُجتمع في لقاءاتٍ وديةٍ مُنتظمة تجتمع خلالها باقة من المبدعين والموهوبين دون قيودٍ على حضورها، وإذا وقع بصره على شخصٍ يرتسم الحزن على ملامحه بين الحاضرين يبذل جُهدهُ للتسرية عنه بأغنيةٍ أو دُعابةٍ أو حديثٍ طريفٍ إلى أن تُضيء عيناه وتتربع الابتسامة على شفتيه، فترى أشخاصًا يدخلون المكان وهموم الدنيا تُثقل كواهلهم؛ ولا يخرجون منهُ إلا ضاحكين تفيضُ البهجة من أعطافِهم، ربما لهذا وصفهُ الشاعر إبراهيم الأنصاري في إحدى قصائده بقوله: «تهدأ أرواح وتسلَّى لي وصَل عيسى.. وحيَّا»، ولعلَّ أبرز ما يُميِّز تلك اللقاءات الوديَّة العامَّة أولاً: شعور المُنضم إليها بالترحيب والراحة والانتماء، على عكسِ لقاءاتٍ في أماكن أخرى يشعر فيها الجالس بالأجواء جاثمةً على صدره من نظرات النبذ والإقصاء، وثانيًا: تشجيع الموهبة أو الرغبة في التعبير عن الذات صغيرة كانت أم كبيرة بالاستحسان والتصفيق لدفعه إلى الأمام، وهي ما تفتقر إليهِ مجموعاتٌ أخرى يُهاجم كل فردٍ فيها الآخر ويستهدف النيل من معنوياته.
إذا حضر (عيسى هجرس) حضر معهُ (الزمن الجميل) بروحه المعجونة بإبداع ومشاعِر وأخلاق ورُقي وعنفوان وتفاؤل ذاك الزمن، وإذا تدفَّق حديثهُ ينبضُ في الذاكرة إيقاع (القصيدة الدمشقيَّة) للشاعر (نزار قباني) في البيت الذي يقول: «أنا الدمشقيُّ لو شرَّحتُمُ جسدي/ لسالَ مِنهُ عناقيدٌ وتُفَّاحُ»، فعيسى هجرس هو البحرينيُّ لو فُتِّشَت كُل خليةٍ من خلاياه لوجدنا بصمة البحرين في حمضها النووي، وهو المُحرَّقي تعزف كُريات دمهِ على أنغام عشق المُحرَّق، وهو الإنسان الذي ينتصر دائمًا لإنسانيَّته، والفنَّان الموهوب القادر على بث السحر في قلوب الجماهير بجاذبيَّة شخصيَّتِه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك