بقلم: عاطف الصبيحي
قبل الشروع في الموضوع ينبغي تقعيد قواعد لا يختلف عليها اثنان، هكذا يُفترض، فهي تعد من صلب العقيدة حسبما أرى، أول تلك القواعد، أن كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وتعالى، والهالك لابد أن يمر بسلسلة تطورات تقوده إلى الهلاك والزوال، والتاريخ البشري، ثم الإنساني، ثم الرسالي كله شاهد على مصداقية هذا القانون الصارم السرمدي، شرائع نسخت- ألغت- شرائع، وأخلاق لم تكن موجودة عند رسول من الرسل، نزلت مع الرسول الذي تلاه لتناسب تطور ما طرأ لم يكن موجودا عند الرسول السابق، فشريعة موسى، شريعة الإصر والأغلال نسختها شريعة الرحمة- شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، انسجاماً مع سنة الله في الكون، وما تحمله من خير للناس، وثاني القواعد أن مسار التاريخ منذ بدأت الحياة على الأرض ماض إلى الأمام، حاملاً معه حزمة مستحدثات في كل حقبة تاريخية، لم تكن موجودة في الحقبة السابقة، وعليه ورضوخاً لسنة الله التي لا تتحول ولا تتبدل في هذا المضمار فالنوازل لا تتوقف، أي لكل حقبة تاريخية نوازلها، وثالث القواعد أو قل البديهيات أن رسالة محمد بن عبد الله عليه السلام هي الرسالة الخاتمة، فكونها خاتمة فتلك أول ما يميزها، وأنها عالمية كونية فتلك ثاني المميزات، وثالث مميزاتها أنها شمولية.
أمام هذه القواعد البدهية فالرسالة المحمدية المتصفة بالشمولية والعالمية والخاتمية عليها أن تُجيب عن كل نازلة، وتكون حاضرة في كل ما يستجد في حياة الناس، لأنها كما هو معلوم بالضرورة أنها وُجدت لتبقى، وصُممت لتهندس حياة الناس حسب التوجيه الرباني، وقد فعلها الرسول الكريم في أول تطبيق عملي للشريعة في المدينة المنورة، فكانت التجسيد العملي الأول للهدي الرباني، والتي ما زالت الحكومة الإسلامية الأولى أنموذجا لفقه الواقع في المدينة المنورة، وصياغة صحيفة المدينة- دستور المدينة- لخير شاهد على ذلك.
بعد الرسول الكريم جاء الخليفة الأول وحافظ على دولة وحكومة صاحبه، حيث الظروف التي أُحيط بها أبو بكر معلومة للجميع، وقِصر مدة خلافته ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، ثم تلاه ابن الخطاب الذي تعامل مع الواقع خير تعامل، حيث يقول العقاد: حين تدرس خلافة الرجل – عمر رضي الله عنه- ستجد نفسك أمام مجموعة من الاجتهادات لم تكن موجودة في عهد الرسول الكريم ولا في عهد الخليفة الأول، ويستطرد العقاد قائلاً: ستجد نفسك مضطراً للقول بأنه أول من فعل كذا أو أنشا كذا، أول كانت له السابقة في استحداث هذا الأمر أو ذاك، والزمن لا يتوقف عند عمر بن الخطاب، فالنوازل لا بد حاصلة وتحتاج إلى من يتصدى لها، على ضوء الهدي القرآني، والنموذج النبوي، والرسول الكريم كان يحثهم على إعمال العقل والاجتهاد، ليحيا الناس بسِعة شريعة الله، ولعل قوله عليه السلام: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» إشارة إلى هذا المعنى، ووصيته لمعاذ بن جبل حين أرسله لليمن، تؤكد منهجية الرسول الكريم في ضرورة التصدي للمستجدات والنوازل تحت مظلة القرآن وأبعاد معانيه، حين سأله سؤال الطمأنينة، بم تحكم يا معاذ ؟ فأجابه: بكتاب الله ثم بسنة رسول الله ثم إن لم أجد أجتهد برأيي، اجتهاد الرأي من معاذ هو ما أراد الرسول الكريم أن يسمعه ليطمئن، فأقره.
وبعد ذلك جاء عصر التدوين والفقه، وكان كل علم من أعلام الفقه يتصدى لنوازل عصره، فدونوا فقههم بعد اجتهاد، وتأني وصبر، لإصابة الحكم الصحيح لما نزل بهم من أمور، والنوازل سنة لا بد ماضية في الكون، مع تعاقب الليل والنهار، ففي ذلك الفقه أداروا حياتهم خير إدارة، فجزاهم الله خيراً، ولكن.
هل توقف الزمن عندهم؟ هل توقفت النوازل؟ هل تجمدت التطورات بعدهم؟
هذه الأسئلة نسأل الله العون والتوفيق في الإجابة عنها في المقال التالي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك