صدر تقرير مخيف ومقلق للغاية من بعض المنظمات التي تعمل تحت سقف الأمم المتحدة، مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف)، إضافة إلى أكثر من 65 جمعية ومنظمة أخرى شاركت في إعداد هذا التقرير الأممي الشامل لكل دول العالم.
ولكن هذا التقرير بالرغم من خطورته وأهمية القضية التي يناقشها لاستدامة حياة البشر على سطح الأرض، إلا أنه مرَّ مرور الكرام وكأن شيئاً لم يكن، فلم ينتبه إليه كثير من الناس، من حكومات ومسؤولين في الدول عن صحة البشر، كما أن معظم الوسائل الإعلامية لم تعطه الرعاية والاهتمام الكافيين اللذين يتناسبان ويتماشيان مع قيمة وأهمية هذا التقرير وعلاقته المباشرة بالأمن الصحي لكل سكان الأرض، فلم تقم وسائل الإعلام بجميع أنواعها وصورها بتغطية هذا الحدث الجلل، والظاهرة الصحية المتزايدة نوعاً وكماً، فلم تنقله إلى الناس في صفحاتها الأولى، ولم تحظ بالأولوية في النشر والتحليل.
هذا التقرير نُشر في 11 مايو 2023 أساساً من منظمة الصحة العالمية، تحت عنوان: «وُلد في وقتٍ مبكرٍ جداً: عَقد من العمل حول الولادة المبكرة» (Born too soon: decade of action on preterm birth)، وهو جزء من عملٍ دولي مشترك عمره أكثر من عشر سنوات، ويهدف إلى إجراء الدراسات والأبحاث الميدانية ومراقبة وتحليل ظاهرة عالمية منتشرة ومستمرة في معظم دول العالم منذ سنوات طويلة وهي الولادة المبكرة، أي الولادة قبل انتهاء الأسبوع 37 من الحمل، ويُطلق علي هذا الجهد الدولي المشترك: «تقرير العمل العالمي حول الولادة المبكرة» (Global Action Report on Preterm Birth).
ونظراً إلى أهمية وخطورة قضية الولادة المبكرة، وولادة الأجنة الميتة فقد أعلن التقرير حالة «الطوارئ الصامتة» من هذه الولادة غير الطبيعية وفي غير وقتها العادي، وهذا الإعلان استند إلى المعلومات والإحصاءات المتواترة المنشورة حول هذه الظاهرة الصحية الصامتة في كل دول العالم. فهناك على المستوى الدولي حالات ولادة 13.4 مليون طفل غير مكتمل النمو، أو الأطفال الخدج (premature) في عام 2020، أي ما يقارب من طفل لكل 10 أطفال ولدوا قبل انتهاء 37 أسبوعاً من الحمل، حيث مات منهم مليون طفل بسبب تعقيدات الولادة ومشكلات حماية صحة الطفل بعد الولادة. وفي العقد الماضي، أي في الفترة من 2010 إلى 2020 تمت ولادة 152 مليون طفل ولادة مبكرة، وهذه الولادة غير الطبيعية وفي غير وقتها هي حالياً السبب الرئيس لموت الأطفال، وتمثل وفاة طفل واحد من بين 5 وفيات بين الأطفال الذي أعمارهم أقل من 5 سنوات. وهذه المعلومات التاريخية تؤكد صحة إطلاق وصف حالة الطوارئ الصامتة على هذه الظاهرة الصحية، فنمط أعداد الولادة المبكرة والوفيات بسببها لم يتغير طوال العشر سنوات الماضية، ولم يحدث أي تطور إيجابي ملموس في معظم دول العالم، وبخاصة في الدول النامية الفقيرة، حيث كانت النسبة 9.8% في عام 2010، وارتفعت إلى 9.9% في عام 2020.
فهذا التقرير الرابع والأخير من سلسلة تقارير دورية صادرة عن منظمة الصحة العالمية واليونسيف، يقدم رؤية وتقييما دوليا لظاهرة الولادة المبكرة، وتأثيرها المزمن والعميق على الأم والأسرة والمجتمع، إضافة إلى النفقات المالية الناجمة عنها. والتقرير يتكون من سبعة فصول، الأول يقدم نظرة تاريخية حول هذه الظاهرة، والثاني يقدم معلومات حول أعداد الوفيات للأطفال أثناء الولادة، والثالث يتناول دور الناس في الحد من هذه الظاهرة، والرابع يقدم صحة المرأة والخدمات الصحية وكيفية منع الظاهرة، والخامس حول العناية بالأطفال حديثي الولادة، وأما الفصل السادس فيقدم الخطوات التي يجب اتخاذها عبر القطاعات المعنية بالظاهرة، وأخيراً يأتي الفصل السابع تحت عنوان: «عقد من التغير».
فهذه الظاهرة الصحية الصامتة المهددة لاستدامة الجنس البشري والمنتشرة في كل أنحاء العالم لها عدة أسباب تقليدية معروفة منذ زمن طويل، منها جودة وسرعة الخدمات الطبية التي توفرها الحكومات في مجال الحمل والولادة ورعاية الطفل بعد الولادة، ومنها الحالة المادية وثقافة ومستوى تعليم أفراد الأسرة، ومنها أسباب لها علاقة بنمط حياة المرأة الحامل كالتدخين وشرب الخمر وسوء التغذية والبدانة.
ومن بين الأسباب الرئيسة في تقديري، والتي لا تحظى بالاهتمام من قبل كثير من الحكومات والأسر، والتي بدأت تأثيراتها وبصماتها القوية على الحمل والولادة تنكشف يوماً بعد يوم هي تعرض المرأة الحامل وجنينها أثناء الحمل وبعد الولادة للهواء الملوث وللسموم التي تنبعث من مصادر لا تعد ولا تحصى، سواء من البيئة الداخلية، وبالتحديد بيئة المنزل، أو من تلوث الهواء في البيئة الخارجية.
كما كنتُ أتمنى أن يقوم التقرير الحالي لمنظمة الصحة العالمية بتقديم وتخصيص فصل مستقل يناقش عدة محاور منها دور تلوث الهواء في الداخل والخارج على صحة الحامل وجنينها قبل الولادة، والتعقيدات التي تنتج عند الولادة بسبب التعرض المزمن لتلوث الهواء، سواء الولادة المبكرة غير الطبيعية، أو ولادة طفل ميت، أو معوق، أو منخفض الوزن والحجم، إضافة إلى محور مهم جداً وهو السلبيات التي تنجم عن تعرض الطفل بعد الولادة وهو في طور النمو الجسدي والعقلي للملوثات الموجودة في الهواء الجوي في داخل المنزل وخارجه. والدراسات العلمية التي تسبر غور هذه المحاور كثيرة جداً وجميعها يثبت وجود علاقة بين تلوث الهواء والولادة المبكرة غير العادية، أو ولادة الأجنة الميتة والمعوقة، وهذه الأبحاث في ازدياد كل يوم، أذكرُ منها على سبيل المثال لا الحصر دراسة واحدة فقط منشورة في التاسع من مايو 2023 في مجلة «اللانست» الطبية تحت عنوان: «تلوث الهواء وصحة الطفل». وهذه الدراسة التحليلية الشاملة والجامعة للأبحاث المنشورة حول صحة الطفل قبيل، وأثناء، وبعد الولادة مباشرة وعلاقتها بالتعرض للهواء الملوث. فنتائج الدراسات تؤكد أن الأم الحامل عندما تستنشق الهواء الملوث، ينتقل إلى الجهاز التنفسي أولاً، ومنه إلى مجرى الدم حتى يصل أخيراً إلى كل خلية من خلايا جسم المرأة، ومنها خلايا المشيمة، وفي كثير من الحالات يتجاوز هذا العضو الخاص بالحمل فيصل إلى أعضاء الجنين. وفي هذه الحالة الصامتة، فملوثات الهواء تسبب التهابات حادة للأم والطفل معاً، كما تُعيق في الوقت نفسه نمو أعضاء الجنين بطريقة أو بأخرى، فتكون نتيجة هذا التعرض لسموم الهواء هي تعقيدات أثناء الحمل، وفي حالات أخرى تكون الولادة في غير وقتها، أو في بعض الحالات يكون وزن الطفل منخفضاً جداً ما يؤدي إلى تحديات في نمو الطفل وإصابته للأمراض الخطرة وصعوبة إبقائه على قيد الحياة.
فتلوث الهواء ونوعية الهواء التي يستنشقها الإنسان هي قضية صحية عامة مشتركة على كل المستويات، وتخص الإنسان الفقير والغني، الكبير والصغير، ومن المهد إلى اللحد طوال سنوات حياته، فهي تضرب الإنسان في كل مراحله العمرية، وقد تُسدد له في بعض المراحل من عمره ضربة قاضية نفسية، أو عقلية، أو جسدية فتهوي به صريعاً على الأرض، ويُنقل إلى مثواه الأخير.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك