الباب وريث معرفي وثقافي ورمزي، في تجلياته المجازية الدالة، فهو ينفتح على معانٍ ودلالات وإشارات عدة (دال ومدلول) يمنحنا المعطى بشكله المباشر أو المضمر، ضمن جمالية تصحب معها الاستعارات في أحايين كثيرة، لتعبر الشكل المعماري الهندسي لهذه الأيقونة البصرية لتمنحنا سحر ما خلفها من مضمرات شتى، فالباب وريث المجاز الاجتماعي والسيكولوجي، قبل أن يكون ضمن المتطلب المعماري الضروري، والمفتاح بقيمته الرمزية هو (الباب) ومفتاح البيت بقيمته (الدلالية) هو (الباب) ومنفذنا إلى (الداخل/الأمان/ المضمر/ السرانية) هو باب العبور بين ضفتي (الخارج/ الداخل) (الموضوعي/ الذاتي) (الكينونة/ الوجود) فهو المجاز والرمز والتورية الذي يحمل معه التناصات بمعانيها المختلفة والمرتبطة بالمثابات التاريخية والاجتماعية والموروثة، فللمدن أبوابها التي تقصي البعد الفيزيائي لهذا الوجود لتتحرك قيمته الدلالية ضمن فضاءات (سيكولوجية/ تتعالق مع الذات والمشاعر) ما بين (الانفتاح/ الانغلاق) ما بين (العبور/ البقاء) ما بين ( الدخول إلى العمق) (البقاء على السطح) (ما بين الانفتاح والرؤية المتصلة بالبيئة المألوفة) وما بين (الأمكنة العصية/ المغلقة التي يقف الباب شامخاً حيالها من دون أن يشرع) ولهذا الباب حضوره اللافت في مضمار أدبنا العالمي والعربي سواء برائعة سارتر (الأبواب المغلقة) أو عبر (الباب/ ليوسف الصائغ) أو ما كتبه (غسان كنفاني/ رواية الباب) وكذلك مجموعة عبدالرحمن منيف (الباب المفتوح) وغيرها الكثير، وها أنا أقرأ آخر تلك النتاجات ضمن نسقية (الباب) وتعدد دواله، في نصوص (مزاج المفاتيح) للشاعرة والروائية البصرية (بلقيس خالد) الصادر عام 2022 عن دار المكتبة الأهلية (البصرة)، منذ مفتتح (مخاوف كثيرة.... تتوارى خلف الباب) يتسم المعنى (السيكولوجي) بحالة العبور لهذا المصد (الباب) فهو (الحامي/ أو الحائل) دون أن تتكشف تلك (المخاوف/ الكثيرة) فالباب الشامخ حال دون أن تتسرب تلك المخاوف إلى (الخارج) ، من هذا المفتاح نلج إلى متن النصوص، بالقيمة الاعتبارية للمعنى الأول (عتبة موازية) (مزاج المفاتيح/ ص9) فالمدلول الفلسفي والفكري والنسقي يتغاير وفقاً لمعنى المقاصير بهذا النص (الداخل/خلف الباب/ حكاية) (الخارج/ أمام الباب/سؤال) مع طرقات الباب تكوين معماري سينمائي يرتسم وفقاً للغة تصحب معها كل القيمة الرمزية بهذا الباب ما بين مشهدية خارجه وداخله وما بين قيمته الفاصلة بين (الخارج والداخل) وإن اتسمت تلك الأبواب بطابع الذاتية السيكولوجي (الملهوف، الصدفة، الخائف) فهي تعبر بقيمتها الدلالية المادية الهندسية لوجود الباب لتعلق بروح الإنسان وذاكرته الفوتوغرافية العالقة جراء التحديق بتلك الأبواب وقيمة وجودها الرمزي سيما إن كانت ملجأ واتجاها قيميا واعتباريا، ومن يخطئ طرق الباب فهو لا يخطئ بمدلولها المادي المحسوس، ربما أتاه الطريق فكان (أنا) أو (أنت) استحالت طرقاته إلى صراخ (الباب). وفي عتبة أخرى (ابتعلت الأبواب مفاتيحها) منذ فعل (الابتلاع) يبدو أن هذا الكائن (الباب) بأيديولوجياً فهو (مصاب بالضجر) (مفاصله تتحدث) (يكحُ) (يحمل بصوته المفتاح: طارق الباب/ص19) أليس لهذا الكائن حضور رمزي ضمن ثيمة المجتمع الإنساني بما تحمله الطقسية والموروث في ثنايا مجتمعنا الباحث عن نقاء هذا المدلول وسط قيمته الاعتبارية وسيرورته الفاعلة في ذاتنا، حتى وإن كان ذلك الباب يتوجس من (قرعات/ الخارج) الأيدي الغريبة والقريبة ، فلا يحمل معنى الألفة، لكل تلك الطرقات بالمعنى الذي يجعل الباب يتحمل الطرقات بأوجهها كافة، فإن كانت (خطيئة مستفزة/ ستبكيه ذكرى الغاب) لينتقل وفقاً لهذه الرؤية المستفزة ببعدها السيكولوجي إلى عتبة أكثر اضطراباً، (باب خلفته رفسة) وفقا لفواعل مضطربة في بنية النص، (طارق يذكرنا بضعفنا / في لحظة ما كل الأبواب قابلة للكسر/ مازالت الريح تئن في شقوق الباب/ أحيانا ينفث سُماً باب الدار/ لن يتعافى باب خلعته رفسة/ خلف الباب عدو مهتاج) يبدو حضور الباب أكثر اضطراباً وسوداوية في ثيمته وهو الفاصل المؤدي إلى (سيطرة عسكرية/ بيت مهجور/لا أحد يرغب بأحد/ عناكب كثيرة/ دلالة الوهن/ الجرس :بديل الطرقات على الباب) إن التحولات الماكثة أمام وخلف الباب في سيرورة (زمكانية) تتغاير وفقاً لسياق النص في هذه المجموعة، وهو ما يمكن الشاعرة أن تحلق بنا بأمكنة مغايرة وموضوعات متنوعة يجمعها الرمز (الباب) بما يحمل من تعددية كبيرة في الدلالات التي تشحن نصوص بلقيس خالد بالمغايرة كلما قرأت المسطور الشعري في هذه المجموعة ستحلق معه بمعنى مغاير عن الآخر، لتفتن برمزية الباب وما يمكن أن يحدثه على مستوى التلقي بذاكراتك كقارئ لتحلق أنت الآخر بأجنحة النص إلى تلك الأبواب عابراً معها قيمتها الدلالية وموحياتها الرمزية، ما بين ثنائية (الفتح/ الغلق) يكون الباب معبراً للمعنى ودالاً موجزاً عن هذه القيمة الاعتبارية المرتكزة على ذات الفرد بما تحمل من مرجعيات مجتمعية، قوامها جسد مادي يتحرك من معناه الهندسي والمعماري إلى معناه المجازي والبايولوجي ليغدو كائنا من كائنات الوجود يأخذ بيدك إلى ضفة أخرى أكثر مغايرة واعتباراً من وجود الجامد في (الآن/ أو الأمس) يتحرك من فضاء زمني حاضر يستفز ذاكرة الفرد وما تحمل من إرهاصات ذاتية لتنطلق بحاضر أكثر حيوية قيمته العبور إلى فضاء منفتح من خلال هذا الجسد (المادي) وهنا تكمن البراعة بتوظيف الباب في هذه المجموعة التي يتعلق بها المعنى الفلسفي مع الشعري بصورة واضحة جداً، ضمن فضاء (مغلق/ متجهم) (مفتوح/ بوجه جميل وناضر) ما يمكن أن تتلقاه من هذا الباب هو بالضبط ما يمكن أن يواجهك في محطات العبور الإنسانية إن كان ما يمكن أن يكون نافذة عبورك هو (إنسان بايولوجي) بكامل قواه العقلية والجسدية! هذا لا يعني أن فضاء الألفة هو ذاته المطلق فضاء (الانفتاح/فتح الباب) فقد يعني فتح الباب أنك ستواجه (ورقة تهديد /عساكر وسجوناً / بيد الطارق ذهبت تلابيبه/ساومه الدائن/انتزعوا بناته) قد يكون فضاء فتح الباب يقودك إلى كل صور الخوف والرعب والإدانة والاغتراب (الخارج/المرعب بتمظهراته كافة) ، ويكون فضاء الانغلاق هو (ستر مؤقت) من رعب الخارج (فالباب هنا ستر حصين لك من كل مظاهر غربة الخارج المخيف). إن بلقيس خالد شرعت لنا مختلف الأبواب لنلتمس حجم الألفة بفضاء نصوصها التي تأخذنا إلى مضامير تلامس الفاعل الشعوري في الإنسان وهو يلوح لتلك الأبواب علها تكون مشرعة له ومعبر أمان لضفة أكثر جمالية من الواقع المعاش عبر افتراضات الشاعرة الأخاذة في البناء والإيحاء... بلقيس خالد عبر نصوصها القصيرة ترسم للتجريب بإيصال المعنى عبر الاختزال بالمفردة الشعرية وحملها على الإيقاع الباعث على موسيقى من نوع خاص تأخذنا إلى القيمة الجمالية لهذه النصوص ومدلولات مفرداتها.
{ ناقد وأكاديمي من العراق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك