قبل قرابة عشر سنوات كان أحد أقربائي، وهو في سن المراهقة يعاني من أعراض مرضية كالصداع المزمن، والإحساس بالدوار، وآلام في الصدر، فأخذته مباشرة إلى أحد الاستشاريين المختصين في أمراض القلب.
وبعد إجراء الفحوصات الأولية الروتينية المعروفة، قرَّر الطبيب وضع جهاز معروف وشائع الاستخدام لحالات الإصابة بأعراض قد تكون لها علاقة بوظيفة القلب وأدائه ونشاطه اليومي، وهو يعرف بجهاز «هولتر».
وهذا الجهاز صغير الحجم وخفيف ويمكن ارتداؤه مدة يوم أو يومين، حسب قرار الطبيب المختص، ومن دون أن يشكل أي عائق أو صعوبات على حركة المريض وبرنامجه اليومي المعتاد، حيث يقوم هذا الجهاز بقياس وتسجيل نشاط القلب، ومعدل نبضات القلب ومدى انتظامها في اليوم والليلة.
ولكن تبقى هناك مشكلة واحدة متعلقة بهذا الجهاز اليدوي البسيط، وهذه المشكلة فتحت عينيَّ على قضية مهمة جداً لها علاقة بجميع أفراد المجتمع في كل أنحاء العالم من دون استثناء. فهناك بعض الأمور يجب تجنبها والابتعاد عنها عند وضع الجهاز على المريض، ومنها الامتناع كليا عن استخدام الهاتف النقال فترة وضع الجهاز على جسم المريض بسبب تداخل وتعارض عمل الجهاز ووظيفته مع المجالات الكهربائية والمغناطيسية في الهاتف النقال أو المحمول.
ولذلك عندما قال الطبيب للمريض المراهق الصغير في السن التوقف عن استخدام الهاتف النقال، وعندما حاولتُ أخذ الهاتف من قريبي المريض، ووقع ما لم أتصوره قط وأتخيل حدوثه أمامي، فرفض هذا المراهق تسليمي هاتفه النقال، وأصيب بهستيريا وجنون وقتي، فبكى وصرخ قائلاً: «لن أُسلمكم هاتفي.... لا أستطيع الاستغناء عنه». وبعد دقائق طويلة من المناقشات الحادة التي دارت بيني وبين الطبيب وبين هذا المراهق محاولين إقناعه بالتوقف عن استخدام الهاتف فترة زمنية قصيرة جدا، وهي فترة وضع الجهاز، توصلنا إلى حلٍ توافقي، وحل وسط، وهو أن يبقى الهاتف مغلقا أثناء عمل الجهاز، ولكن أن يكون مع المريض، ويتعهد بعدم فتحه فلا يسلمه إلينا.
فهذه الحادثة التي وقعتْ أمامي أكدتْ لي بأننا سنقف أمام مشكلة مزمنة وعصيبة في المستقبل القريب، وأن أطفالنا، وشبابنا، بل وكبار السن سيعانون من تداعيات سوء استخدام هذا الهاتف النقال الذكي بكل ما يحتويه من منصات، ووسائل التواصل، والتطبيقات بمختلف أنواعها وأشكالها، وسيقعون فريسة سهلة بالإدمان عليه طوال اليوم والليلة وعدم القدرة على الاستغناء عنه.
مؤخرًا، وبالتحديد في 23 مايو 2023 صدر بيان مهم جدا من «الجراح العام» في الولايات المتحدة الأمريكية (Vivek Murthy)، وهو يُعد المسؤول الأول عن حماية الصحة العامة في أمريكا. وهذا البيان، أو التقرير مكون من 25 صفحة تحت عنوان: «وسائل التواصل الاجتماعي والصحة العقلية للشباب». وفي هذا البيان العام يُحذر فيه الجراح العام مما كنتُ أتخوف منه بأنه سيقع يوما ما، وشاهدته أمامي مع تجربتي الشخصية التي خضتها مع قريبي المريض، وهو التأثير الصحي السلبي للهاتف النقال ووسائل التواصل الاجتماعي على الناس عامة، وبخاصة تأثيراتها الصحية العقلية في الأطفال والمراهقين.
فهذا البيان لا أعتبره كإنذار مبكر من أزمة صحية نفسية وعقلية ستصيب الأطفال والشباب والكبار معا، وإنما هو إنذار وتحذير متأخر بعض الشيء لأن الضرر قد وقع فعلا، فوسائل التواصل زادت وتنوعت، والتطبيقات الموجودة في الهاتف النقال لا تُعد ولا تحصى ونعتمد عليها بشكلٍ كلي في قضاء حوائجنا ومعاملاتنا بشكلٍ يومي، ولذلك علينا التصدي لها فورا وبصفة مستعجلة.
فقد أكد التقرير استنادا إلى دراسات استطلاعية أن قرابة 95% من المراهقين في أمريكا الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و17 يستخدمون وسائل التواصل وتطبيقاتها المتعددة بشكلٍ يومي، وأكثر من 30% منهم قالوا بأنهم يستخدمونها يوميا، وبشكل مستمر، وأنهم يستخدمونها حتى منتصف الليل أو ساعات متأخرة من الليل. كما أفادت الدراسات بأن هناك قرابة 40% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و12 يقضون جزءاً كبيراً من وقتهم أمام هذه الوسائل مثل «تيك توك» (TikTok)، وإنستغرام، وغيرهما.
ولهذا الاستخدام المفرط غير الرشيد وغير المقنن للهاتف النقال وما به من وسائل مغرية وغير مناسبة للتواصل الاجتماعي سلبيات كثيرة، وبخاصة عند الأطفال الذين يكون مُخهم في طور التطور والنمو والبناء، حسب استطلاعات الرأي التي أُجريت والدراسات الميدانية، ومنها دراسة في مجلة «مراجعات طب النوم» (Sleep Medicine Reviews) في العدد الصادر في أبريل 2021 تحت عنوان: «العلاقة بين استخدام وسائل التواصل وساعات النوم، والصحة العقلية عند الشباب»، حيث قامت بحصر الدراسات السابقة المتعلقة باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأعراض الإصابة بأمراض الصحة العقلية عند الشباب. فمن المخاطر والسلبيات سقوط الأطفال والمراهقين في الأمراض العقلية النفسية كالاكتئاب والقلق والميل نحو الانتحار، وعدم انتظام مواعيد ووجبات الأكل، وحدوث خلل واضطراب شديدين في أوقات النوم والاستيقاظ، إضافة إلى التعرض لصعوبات في النوم. كذلك من الآثار والمخاطر السلبية التي أوردتها الدراسات العلمية هي الإدمان والنزعة نحو الوحدة والانعزال عن الآخرين، وقضاء أوقات طويلة مع صحبة الهاتف بعيدا عن الناس.
واليوم كذلك انكشفت قضية جديدة لا تؤرق وترعب رجال الصحة فقط، وإنما رجال السياسة والحُكم على حدٍ سواء لخطورتها الشاملة على المجتمع برمته، من أطفال، وشباب، وكبار السن، وهو التطبيق المخيف المجهول الخاص بالذكاء الاصطناعي (generative artificial intelligence (AI))، حسب الدراسة المنشورة في مجلة «العلوم» (Science) في العدد الصادر في 23 مايو 2023 تحت عنوان: «التواصل الاجتماعي: الذكاء الاصطناعي قد يضر بالصحة العقلية». ونظراً إلى التهديدات التي قد يشكلها هذا التطبيق، فقد قرر زعماء الدول الصناعية السبع في اجتماعهم الذي عُقد في مدينة هيروشيما اليابانية في مايو 2023 تشكيل هيئة نقاشية دولية حول هذه القضية الدولية المشتركة تحت مسمى «عملية هيروشيما للذكاء الاصطناعي».
ولذلك فالهاتف النقال، وما يحمل في جوفه من غث وسمين، وفاسد وصالح، وردئ وجيد، كما هو الحال بالنسبة إلى الأجهزة والتقنيات الحديثة، يجب أن يخضع لأنظمة صارمة وإشراف دقيق تقنن استعماله، سواء على المستوى الدولي، أو القومي، أو على مستوى الأسرة الواحدة، أو على مستوى الفرد نفسه، فالتيار قوي وجارف لا يقاومه ذوو النفوس الضعيفة، ولا يستطيعون الوقوف والصمود أمامه.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك