بقلم: عاطف الصبيحي
الحرية فطرة منذ نفخ الروح، بالنفخ الروحي الإلهي تأنس البشر، وبالنفخ تأهل الإنسان للخلافة، بعدما كان كومة بيولوجية تتحرك بلا هدى، لا يضبطها ضابط من خُلق أو هدى من علم، فأراد الله بتكريم البشر بنفخة الروح ليكون أهلا لحمل الخلافة وعمارة الكون، وقد كان ذلك وخط التاريخ شاهد على ذلك، فالحرية بهذا هي صنو الإنسان، أي يفقد الإنسان إنسانيته بغياب حريته طوعاً أو كرهاً.
الحرية ثقافة، ولا يحمل الثقافة إلا الإنسان، ثقافته هي نتيجة للهبة الربانية المتمثلة بالسمع والبصر والفؤاد وقبلها الروح كبُعد رابع للإنسان كما يحلو للمفكر الحاج حمد أن يصفها، والحاج حمد هذا المفكر استخلص لنفسه منهجية خاصة في التعاطي مع مسألة الحرية ذات الحساسية البالغة والأكثر إغراءً للبحث، فهو يجمع بين القراءتين كما يقول العاني في تقديمه لكتاب الحاج حمد: قراءة بالقلم وهي قراءة الواقع الموضوعي وما يتعلق به من إشكالات، وقراءة باسم الله ينطلق فيها من القرآن الكريم بصفته كتاب مهمين وحاكم على كل المتون المنبثقة عنه، ولا يغيب عن بال المفكر تكوين الإنسان نفسه، كما أسلفنا آنفاً بأن الحرية صنو الإنسان لما تقدم من أسباب.
البُعد الروحي وليس أبعاد الجسد الحسية هي التي تحكم حرية الإنسان، والعلم كجزء من نفخة الروح هو شرط الحرية الأول، وعليه كان الاستخلاف، وليس التنزيه والعبودية، حيث العبودية خطوة تالية على العلم، والنص القرآني يشير بوضوح إلى أن الاستخلاف خطوة تالية للعلم أو استحقاق له، والآيتين 31،30 من البقرة تشيران إلى تلك الخاصية: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) فالملائكة كانوا من المسبحين بلا انقطاع، العابدين بلا فتور، الطائعين طاعة مطلقة، ولم يكن الاستخلاف من نصيبهم، ويقول الله تعالى في الآية التالية: (وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) سؤال في جوفه الإجابة بالعجز ويستطرد القرآن في الموضوع: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) إقرار بالعجز ويتلو ذلك قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فجلي أن معيار الاستخلاف كامن في قوله تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلها).
فالربط بين نفخة الروح والحرية يفرضه المنطق، ومن خلاله ينطلق الوعي الإنساني بالكون كله، وعليه فالحرية غير مقيدة لأي ضوابط تعيق الإنسان عن استخدام مقومات الوعي، وإنما قيد الحرية هو قيد أخلاقي، وهذا القيد هو المشترك الإنساني بين كل الأديان والمذاهب والفلسفات.
ترتكز الحرية في المنظور الغربي على تكوين الإنسان المادي، وفي الإسلام فإنها مرتكزة على بُعدين البُعد الكوني وامتداد الإنسان الغيبي، الذي يعتبر عنصرا أساسيا في التكوين الإنساني في الإسلام، وللحرية ضوابط اجتماعية وإكراهات ثقافية واجتماعية تعمل من خلال الشعور الجمعي والتي تأتي نتيجة التنشئة والأعراف والتقاليد، فمن حيث المبدأ الحرية هي مفهوم فطري، لكن هذا المفهوم يكتسب بفعل التنشئة والثقافة والعلاقات التي تربط الإنسان بالآخرين محددات موضوعية تعمل على تقنين وتقييد حريته وحركته، وهذا من طبيعة الاجتماع الإنساني، لكن المشكلة في ما يجب أن تكون عليه حدود تلك الضوابط، وما لا ينبغي أن تتجاوزه.
من الصعب بمكان حصر مفهوم كمفهوم الحرية في مقال واحد، لذا سيكون الموضوع اللاحق مكملا لهذا المقال الذي هو بمثابة مقدمة أو عتبة أساسية وضرورية لما بعده.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك