يعلي الفيلسوف الأمريكي جون ديوي من شأن العقل والمعرفة والتواصل الفكري، فيقول: «إن معظم القيم الأخلاقية والميتافيزيقية والدينية التي دخلت في تكوين تراث الإنسان الحديث، إنما هي في أصلها قيم انحدرت من العلم، والبحث والذكاء، وكان دور البحث هو إضفاء النظام والاتساق على الخبرات التي كانت في الأصل متصارعة متنافرة» وعليه نستنتج أن نظرة البراجماتية نظرة مادية ترى الأخلاق طبيعية ومن خلق الإنسان وكده، ونشأتها تجريبية بحتة غير خاضعة لأي قوة عليا. وهي متطورة ومتغيرة لا ثابتة وليست قائمة بالقواعد التي لابد من تطبيقها مثلما نطبق الوصفات الطبية أو طرق الطهي فعدم ثباتها يعود بفضل خلق الإنسان وتجربته في الحياة وتبعا للظروف والمواقف
والمصلحة والمنفعة إلا أنها يجب أن تكون موافقة للرأي العام.. فتحقيق الخير أو الإصلاح لا يكون الا بامتزاج بين القوى الداخلية للإنسان والخارجية.
فالقيمة هي كل ما له سلطة في توجيه السلوك وإن الشر عنده ليست مشكلة لاهوتية ولا ميتافيزيقية بل عملية، والأخلاق والخيرية عنده تتخذ طابعا شموليا، فلا فرق عنده بين خير الفكر، وخير السلوك، ذلك أن الفاعلية الإنسانية وحدة لا تتجزأ ويرى أنه لا توجد غايات أخلاقية إلا حينما يكون هناك عمل، وطالما أن هناك حاجة إلى العمل فهناك شرور، وبالتالي فإن الخير الذي يتطلبه الموقف لا بد أن يتخذ صورة نسق أخلاقي يكون علينا الاهتداء إليه في ضوء العيوب الحالية وقام بإعادة بناء الأخلاق، ونظرية المعرفة على أساس نزعته التجريبية الطبيعية، فكل أحكام القيمة والأخلاق لا بد أن توضع على قاعدة من العلم ونادى بضرورة أن تبدأ الأخلاق من الواقع ورفض القول بالخير المطلق أو الشر المطلق.
وبيَّن كذلك أن الأخلاق معنية بالسلوك ونقد التفرقة الحاسمة بين دوافع العمل وعواقبه وبين الأخلاق والسلوك. فعارض مذهب اللذة الحسية الذي اعتبر امتلاك المثل العليا السائدة جوهر الأخلاق وإن لم تشكل قوة دافعة في العالم.. وعارض مذهب المنفعة التي ترى أن المهم خلقيا ليس ما هو بداخل وعي الإنسان بل بما يفعله أو يصنعه أو العواقب التي تصدر عنه، لأن ما يدفعنا إلى العمل ليس الربح والخسارة، وإنما القضاء على التعقيدات القائمة لإحداث انسجام مع البيئة. وأكد مهمة التروي والتبصر في تقدير مسالك العمل.
من هنا نرى أنه لا بد من توفر نشاط متعاقب يجسد اهتمام الطالب بحيث تنجم عنه نتيجة محددة لا يكفي لإحداثها العادات الروتينية والإرشادات المملاة ولا التصرفات التخمينية المرتجلة بل لا بد من القيام بهدف واع ورغبة واعية وتفكير متدبر.
فالذات والاهتمام أو المصلحة اسمان لواقعة واحدة عند الفيلسوف جون ديوي، ويرى أن الإنسان يجعل من مجابهة التحديات والصعاب والتغلب عليها مثار اهتمامه. ونقد النظريتين المرتبطتين أساسا بفصل المعرفة عن النشاط وبالتالي عن الأخلاق وهما النظريتان اللتان فصلا الاستعداد الداخلي والدوافع (العامل الشخصي الواعي) عن الأفعال (العامل الخارجي المادي الخالص) وتقابل العمل بدافع المصلحة عن العمل بناء على مبدأ.
وفي ضوء ما سبق لا بد للتعلم أن يكون مصاحبا للأنشطة ذات الهدف الاجتماعي لتغدو المدرسة صورة من الحياة الاجتماعية ومجتمعا مصغرا ذا تفاعل وثيق مع الألوان الأخرى من الخبرة الاجتماعية خارج جدران المدرسة. وكل تربية تنمي القدرة على المشاركة في الحياة الاجتماعية هي تربية خلقية لأنها تشكل الطبع الذي يتيح التكيف المطرد الذي هو أمر جوهري للنمو.
فالاهتمام بالتعلم من بين كل اتصالات الحياة هو الاهتمام الخلقي الجوهري، فمن يجعل الخلقيات مسألة لا علاقة لها بالمعرفة أو جعل الضمير مختلفا عن الوعي يجعل من التربية الخلقية بالمدرسة أمرا ميئوسا منها عمليا يهبط بها إلى نوع من التعليم التلقيني الجامد أو دروس أخلاق لا تغدو فضائل وواجبات لا تؤثر إلا في مجموعات اجتماعية نظرا إلى تنمية الطبع أو الخلق وجعله غاية عليا وفي الوقت نفسه جعل اكتساب المعرفة وتنمية الفهم يشغلان الجانب الأكبر من وقت المدرسة وعلينا أن ندرك أن الخير لا يتحصله الإنسان من الكتب ولا من الآخرين بل عن طريق التربية طويلة الأمد فهي الثمرة النهائية التي تتوج الخبرة الناضجة بالحياة وأن المعرفة قد تجد ثمرتها المباشرة في السلوك فلا بد من الحرص على وجود ارتباط حيوي بين المعرفة والنشاط لتغدو معرفة خلقية تبني اهتماما اجتماعيا وتمنح الذكاء المطلوب لجعل الاهتمام مجال الممارسة.
فالأخلاق تتعلق بالطبع بأسره والطبع بأسره هو الإنسان بكل مكوناته وامتلاك الفضيلة لا يعني أن يكون لك بضع سمات دون سواها بل معناه تكوين ارتباط اجتماعي مع الآخرين في كل مهام الحياة. وختاما نقول إن هنالك قولا قديما مفاده إنه لا يكفي أن يكون المرء صالحا بل يجب أن يكون صالحا لشيء ما وهذا الشي ما الذي يجب أن يكون المرء صالحا له هو القدرة على الحياة كعضو اجتماعي بحيث إن ما يحصل عليه من الحياة مع الآخرين يتوازن مع ما يسهم به وما يأخذه ويعطيه ككائن بشري ولا بد من تعزيز التربية التي هي الحياة وتعزيز القدرة على مثل هذه التربية هو جوهر الأخلاق فالحياة الواعية هي التجدد المتصل دائما.
{ دكتوراه في القيادة والإدارة
التربوية – جامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك