تشغل اتجاهات الاستثمار في موارد الطاقة اهتمامات الحكومات والمعنيين بأمن الطاقة، والاقتصاد الدولي؛ لأن هذا الاستثمار يتعلق مباشرة بحالة العرض، ومن ثم الأسعار، وكثيرًا ما كانت أوبك في ردودها على الاتهامات بمسؤوليتها عن ارتفاع الأسعار، تذكر أن هذا الارتفاع سببه قصور الاستثمارات في الصناعة النفطية.
وفي مايو الماضي، أعلنت وكالة الطاقة الدولية، في تقريرها استثمار الطاقة العالمي، أن حجم الاستثمارات العالمية في مصادر الطاقة الشمسية، سيتجاوز الاستثمارات النفطية لأول مرة خلال العام الحالي 2023، وفيما تصل تقديراتها لحجم الاستثمار العالمي في الطاقة لهذا العام ما يقرب من 2.8 تريليون دولار؛ فإن منها 1.7 تريليون دولار لتقنيات الطاقة النظيفة، و1.1 تريليون دولار لاستثمارات الوقود الأحفوري.
وفي حين تجذب استثمارات الطاقة الشمسية أكثر من مليار دولار يوميا، فقد أخذت استثمارات الوقود الأحفوري اتجاها معاكسا، لسيناريو صفر انبعاثات كربونية بحلول 2050، مع توقع ارتفاع الطلب على النفط بنحو مليوني برميل يوميًا في 2023. وفي ظل بلوغ الطلب على الفحم ذروة تاريخية في 2022، توقعت الوكالة الدولية، نمو استثماراته لعام 2023، ست مرات، عما توصي به لتحقيق الحياد الكربوني لعام 2030.
وتكمن ثلاثة أسباب رئيسية، وراء تزايد الاستثمارات في مصادر الطاقة النظيفة، أولها، تكلفة الإنتاج من هذه المصادر أرخص، وثانيها، أنها تمثل حلولاً أكثر استدامة لإشكالية أمن الطاقة، وثالثا، التقدم في تصنيع تكنولوجيا الطاقة النظيفة، وما توفره من مبادرات هائلة للمستثمرين. لكن، فيما كان معدل نمو الاستثمارات في هذه المصادر قد بلغ 24% سنويًا للفترة من (2021–2023)؛ فإن معدل نمو الاستثمارات في الوقود الأحفوري قد بلغ 15% سنويًا في هذه الفترة. وفي حين يذهب حوالي 380 مليار دولار هذا العام للطاقة الشمسية -وخصوصًا الخلايا الكهروضوئية- فإن استثمارات بقيمة 370 مليار دولار ستتجه إلى إنتاج النفط (تنقيبا واستخراجا).
وبحسب وكالة الطاقة الدولية، من المتوقع أن تزيد الطاقة المضافة من الطاقة المتجددة هذا العام بمقدار الثلث، ويرجع ذلك، إلى وجود سياسات حكومية ومخاوف بشأن إمداد الطاقة، مع توقع أن يرتفع إجمالي الكهرباء المنتجة من مصادر متجددة عالميًا إلى 4500 جيجاوات العام الحالي؛ أي ما يعادل إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة، والصين، مجتمعتين، كما من المتوقع أن تكون الأخيرة وحدها مسؤولة عن ما يقارب 55% من الزيادات العالمية في قدرات الطاقة المتجددة عامي (2023–2024)، فيما أصبح تعزيز هذه الطاقة في صدارة الجهود الأوروبية، لمعالجة أزمة الطاقة بعد الحرب الأوكرانية. وتأتي معظم الزيادة في الطاقة المتجددة هذا العام من الطاقة الشمسية، بواقع ثلثي هذه الزيادة، فيما نمت زيادة طاقة الرياح بنسبة 70% على أساس سنوي في 2023.
ومع ذلك، فإن الاستثمارات في الطاقة النظيفة، لم تكن متوازنة بين دول العالم، إذ استأثرت الصين، والاقتصادات المتقدمة بأكثر من 90% من هذه الاستثمارات، وبدا أن هناك قصورًا في هذه الاستثمارات في الاقتصادات الناشئة والنامية، باستثناء الهند، والبرازيل، ودول من الشرق الأوسط. ووقفت العوائق المالية، وضعف البنية التحتية، وعدم وضوح أطر السياسات، دون نمو هذه الاستثمارات في باقي بلدان هذه المجموعات.
ووفقا لـ«اتفاقية باريس للمناخ»، لم يعد أمام العالم خيار سوى تعزيز استثمارات الطاقة المتجددة للوصول إلى هدف الحياد الكربوني. وعليه، أوصت الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، إيرينا، بضرورة مضاعفة استثمارات الطاقة المتجددة عالميًا بأكثر من أربع مرات. وإذا كانت هذه الاستثمارات قد بلغت 1.3 تريليون دولار في عام 2022، فإنه يتعين زيادتها إلى نحو 5 تريليونات دولار سنويًا؛ لتحقيق الهدف الأساسي لاتفاقية باريس في الحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى 1.5 مئوية فوق المستويات التي كانت سائدة قبل الثورة الصناعية.
وبحلول نهاية العقد الحالي2030، يحتاج العالم إلى 35 تريليون دولار للاستثمار في مشروعات تحول الطاقة، باستهداف أن يشهد نشر الطاقة المتجددة، نموًا، من قرابة 3000 جيجاوات سنويًا حاليًا، إلى ما يربو على 10 آلاف جيجاوات بحلول عام 2030.
ومع التحول في استثمارات موارد الطاقة، أخذت عديد من الشركات النفطية تغير نموذج عملها التقليدي، وتتوجه إلى استثمارات الطاقة المتجددة، مع إدراكها في نفس الوقت أن صناعة النفط مازال أمامها وقت كاف، وأن الاقتصاد العالمي سوف يستغرق عقودًا معتمدًا عليها، وسيتكلف تريليونات الدولارات كي ينهي هذا الاعتماد. ومع إمكانية تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه أن تمنح الصناعة النفطية متنفسًا ووقتًا إضافيًا؛ فقد شرعت هذه الشركات في تحقيق قفزات في مسار تحول الطاقة وضخت استثمارات في الطاقة المتجددة.
وفي تأييد لهذا، تحولت شركة بي بي البريطانية، إلى شركة طاقة متكاملة، حيث رفعت حجم إنفاقها على الطاقة المتجددة من 3% من رقم أعمالها في 2019، إلى 30% في 2022، واستثمرت في الطاقة الحيوية، وطاقتي الرياح والشمس، وشحن السيارات الكهربائية، والهيدروجين، وتقنية احتجاز الكربون، ثم تأتي شركة إنبريدج الكندية، التي تستثمر في مزارع الرياح والطاقة الشمسية في أمريكا الشمالية وأوروبا، إضافة إلى استثماراتها في الهيدروجين، وتقنيات احتجاز الكربون وتخزينه. وثالثًا، عملاق الطاقة الفرنسي توتال، التي تسعى أن تكون من بين أكبر خمس شركات إنتاجًا للطاقة المتجددة في العالم، وتمتلك حصة الأغلبية في شركة صن باور، الرائدة عالميا في مجال تصنيع الألواح الشمسية.
وفي المسار نفسه، أنشأت -عملاق النفط السعودي- أرامكو، العام الماضي، صندوق استدامة، بقيمة 1.5 مليار دولار؛ للاستثمار في دعم هدف الشركة الخاص، بتحقيق صفر انبعاثات كربوني عام 2050 في الأصول التشغيلية المملوكة بالكامل لها، بالإضافة إلى تطوير منتجات جديدة، منخفضة الكربون، وشرعت في مخطط لبناء واحد من أكبر مراكز احتجاز الكربون، وتخزينه في العالم في الجبيل.
ومع أن الاستثمارات في السعودية تسعى إلى زيادة قدراتها الإنتاجية النفطية من 11.5 مليون برميل يوميًا في 2022 -تمثل نحو 10% من الإجمالي العالمي- إلى 13 مليون برميل يوميًا بحلول 2027، من خلال العديد من المشاريع البرية والبحرية، فيما يمكن أن يصل الإنتاج إلى 15 مليون برميل يوميًا بحلول 2030، من خلال تحرير المنتجات المستخدمة حاليًا في قطاع المرافق؛ فإنها توجهت إلى إنتاج 50% من إجمالي الكهرباء من مصادر متجددة بحلول 2030، في استهداف صافي صفر انبعاثات كربونية بحلول 2060.
وتحقيقا لهذه الغاية، حددت رؤية2030، والمبادرة السعودية الخضراء، أهداف الاستدامة الرئيسية، والتعهد بخفض الانبعاثات بمقدار 278 مليون طن سنويًا بحلول نهاية العقد. وفي الوقت الحالي، هناك نحو 13 مشروعا للطاقة المتجددة بسعة إجمالية 11.4 جيجاوات، بقيمة 9 مليارات دولار قيد التطوير حاليًا. وتمتد الخطط إلى المدن الخضراء الذكية، مثل مشروع نيوم، حيث حصلت شركة نيوم الخضراء للهيدروجين على ترخيص لإنتاج الهيدروجين الأخضر من مصادر الطاقة المتجددة بنسبة 100%، بدءًا من 2026؛ لإنتاج ما يصل إلى 1.2 مليون طن من الأمونيا الخضراء سنويًا؛ للتصدير معتمدة على طاقتي الرياح، والشمس.
وفي يناير 2023، وقع صندوق الاستثمارات العامة السعودي، اتفاقية مع شركة لونجي جرين انيرجي تكنولوجي؛ لتوطين صناعة منتجات وخدمات الطاقة الشمسية في السعودية. وجاءت هذه الخطوة بعد أقل من شهر من استحواذه على حصة 9.5% في شركة سكاي بورن رينيويلز، الرائدة عالميًا في تطوير وتشغيل منشآت إنتاج الكهرباء باستخدام الرياح البحرية. ويمتلك الصندوق، عددا من الاستثمارات الاستراتيجية في قطاعات منخفضة الكربون، مثل السيارات الكهربائية، ومشروعات الطاقة الشمسية، التي يهدف منها إلى تطوير 70% من قدرة توليد الطاقة المتجددة في المملكة بحلول 2030، فيما ضخ استثمارات في شركة أكوا باور، ومشروع سدير، ومشروع شعيبة للطاقة الشمسية، وقطاع المركبات الكهربائية من خلال الاستثمار في شركة السباقات البحرية الكهربائية المحدودة، ولوسيد موتورز، وسير.
وتمتلك الرياض، ميزة نسبية تؤهلها بأن تكون أحد أبرز الدول المنتجة للطاقة الشمسية، حيث (مساحة أكبر، طول ساعات إشعاع شمسي، سعر تنافسي، تكلفة إنتاج أقل)، فضلاً عن قدرة إنتاج أكثر من 200 جيجاوات من طاقة الرياح. ويصب تطوير إنتاج الكهرباء من طاقتي الشمس والرياح لمصلحة إنتاج الهيدروجين الأخضر، والأمونيا الخضراء، من دون حاجة إلى استخدام الوقود التقليدي. فيما يمكن التوسع في إنتاج الغاز من إنتاج الهيدروجين الأزرق، والأمونيا الزرقاء، وهو ما بدأت فيه بالفعل شركة أرامكو، في عام 2021، حين صدرت أول شحنة منها إلى اليابان، وتسعى المملكة، إلى زيادة إنتاجها من الغاز باستثمار 110 مليارات دولار لاستخراج الغاز، خاصة من حقل الحافورة، الذي يحتوي على احتياطيات غاز وتت أتأرخصتبلغ نحو 200 تريليون قدم مكعب، مع إمكانية بدء إنتاجه في 2024.
أما الإمارات، التي تستحوذ على 70% من سعة الطاقة المتجددة في دول الخليج، ومن المقرر أن تستضيف قمة المناخ في نوفمبر القادم؛ فقد بدأت في تمويل الطاقة النظيفة منذ 15 عاما، واستثمرت في ذلك أكثر من 40 مليار دولار، وتتوقع أن تصل القدرة المركبة إلى 14 جيجاوات بحلول 2030.
وتتضمن استراتيجية الشركة الوطنية ادونوك، خطة عمل بقيمة 15 مليار دولار؛ لخفض كثافة الكربون بنسبة 25% بحلول 2030. وتشمل محفظتها شركة الريادة، كأول منشأة تجارية تستخدم وتخزن الكربون، حيث يمكنها التقاط ما يصل إلى 800 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا.
وفي يوليو 2022، وقعت الإمارات، مع فرنسا، اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة في مجال الطاقة، شملت الاستثمار المباشر في تطوير موارد الطاقة. وفي نوفمبر 2022، تم إطلاق الشراكة الاستراتيجية بينها وبين الولايات المتحدة، لاستثمار 100 مليار دولار؛ لتنفيذ مشروعات للطاقة المتجددة، بسعة 100 جيجاوات في أنحاء العالم بحلول 2035؛ تم إطلاق المرحلة الأولى منها في يناير 2023، وشملت تخصيص 25 مليار دولار؛ لتمويل مشروعات الطاقة المتجددة بطاقة إنتاجية 15 جيجاوات في الولايات المتحدة قبل 2035، فيما استثمرت في مشاريع البنية التحتية، والطاقة النظيفة عالميًّا، وعززت نشر واستخدام حلول الطاقة المتجددة في الدول النامية في مشاريع شملت 70 دولة، بقيمة إجمالية تناهز 16.8 مليار دولار. ويمتلك صندوق أبو ظبي للتنمية، سجلا حافلا، في مجال دعم الطاقة المتجددة حول العالم يعود إلى عام 1974.
وقبل أن ينتهي عام 2022، وقعت شركة قطر للطاقة، عقدًا لأحدث مشروعاتها في الطاقة الشمسية في المدن الصناعية الخاصة بها، مع شركة سامسونج الكورية الجنوبية، يبدأ الإنتاج في 2024، ضمن استراتيجية تنويع موارد الطاقة، وتحقيق هدف 5 جيجاوات طاقة شمسية بحلول 2035. وفي الكويت، يعد مشروع الشقاية للطاقة الشمسية أبرز مشروعاتها، وشملت مرحلته الأولى خطة طموحة لتوليد 3.2 جيجاوات، وقد بدأ العمل في هذه المرحلة في ديسمبر 2018، كما تضمنت هذه المرحلة أيضًا مزرعة رياح بقدرة 10 ميجاوات.
وفيما تستهدف سلطنة عُمان، زيادة إسهام الطاقة المتجددة في إنتاج الكهرباء إلى 39%، كجزء من رؤيتها 2040؛ فقد وقعت مع ألمانيا، وبريطانيا، والإمارات، عدة اتفاقات لمشروعات استثمارية في قطاع الطاقة النظيفة، والهيدروجين الأخضر، فيما تحتاج البلاد إلى استثمارات بنحو 230 مليار دولار؛ لدعم مركزها في تطوير الهيدروجين الأخضر.
وعلى هامش منتدى الشرق الأوسط للاستدامة في البحرين في يناير 2023، توقعت شركة جرين إنوفا البحرينية المتخصصة في الطاقة الشمسية، أن تبلغ استثمارات المملكة في مجال الطاقة المتجددة 45 مليون دينار خلال العامين القادمين. ومع التحول في رؤية البحرين لجهة الاعتماد على الطاقة المتجددة، غيرت الشركة الوطنية للنفط والغاز هويتها؛ لتصبح بابكو انرجيز في توجه استراتيجي إلى رفع نسبة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة في المملكة.
على العموم، فإنه بهذه الاستثمارات والمشاريع والاستراتيجيات للتحول إلى الطاقة النظيفة؛ تكون دول الخليج، قد أوفت بالتزاماتها المناخية، وفي الوقت نفسه حافظت على مكانتها في سوق الطاقة العالمي بشقيه المتجدد وغير المتجدد، فيما تعد مشروعات الطاقة النظيفة فيها من أهم المجالات التي تجذب إليها الاستثمار الأجنبي المباشر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك