كتابة وتغطية – على باقر
وأنا أتذوق فنيًّا المجسمات التي ينحتها الفنانون وأمر بينهم، وأتأمل في تعبيراتهم ونظراتهم إلى منحوتاتهم التي تتعلق بالإنسان ما أروعهم! وهم يظهرون تفاصيل دقيقة تعبر عن حركة منحوتاتهم بأفكارهم وتمرسهم يحولون جماد وصمت الطين إلى شكل يوحي بالحركة.. أخذت راحة وأحببت أن أستنطق فنانين آخرين رأيتهم يضيفون قطعا من الطين إلى منحوتاتهم ويبنون تشكيلا في منحوتاتهم يضفي عليها قسمات وتعابير تنمُّ عن عمق الحالة وحركة الجسد. وجدت نفسي منساقا إلى تلك العلوم الفنية فهي غذاء لفكري ولتذوقي الجمالي، فكنت أطابق ما أقرأ حول هذا العلم الفنِّي وبين ما أشاهده في ملتقى «هند كاليري» للفنان علي المحميد الذي احتضن هؤلاء الفنانين النحاتين البحرينيين وزملاءهم في الدول العربية خلال أربعة أيام وهم يغوصون في عمق الإنسان ذكرا أو أنثى.
انتابني الخيال وأن أشاهد حركة أيديهم على الطين اللَّين.
وأدركت أن هؤلاء الفنانين يبحرون في أعماق المجسَّم النَّحتي ويشكلون ما يتأثرون فيه في واقعهم الاجتماعي وأروع ما في النَّحت قدرة الفنَّان النَّحات في إبراز الحركة وقدرته على إبراز التفاصيل في التَّمثال التي تعبر عن دواخلها.
توجهت إلى الفنانة البحرينية غادة عباس الخزعلي مدرسة الخزف في مدارس وزارة التربية والتعليم ومتقاعدة حالياً، متفرغة للأعمال الخزفيَّة، وهي تنحت فتاة رائعة بالطين وقفت متأملا وبصمت أتابع لمساتها الفنية، كنت أتحسس جمال المنحوتة وإتقانها.. فنظرت لي بابتسامة ترحيب وقالت: «فتاتي التي أنحتها ليست من الواقع الذي عايشته وإنما هي منحوتة أفاض بها خيالي.. تخيلتها بحسي الفني أنها في وضع السكينة والهدوء، هكذا أنا رأيتها بقلبي وفكري فنحتها.. انظر إليها.. إنَّها تحيط بها عناصر طبيعية، سأضع في يدها عصفوراً أو حمامة.. حدِّق يا أستاذ في تفاصيلها إنها تعكس جمال المرأة التي تتصف بالهدوء والسكينة.. وحتى تظهر فكرتي التي أريد توصيلها يجب عليَّ أن أتقن تعابير الوجه والأشياء التي قد تبدو بسيطة في لبسها وحركة يدها ووضعية جلوسها».
سألتها: هل لك مشاركات فنية في معارض أخرى؟ فأجابت: «شاركت في ملتقيات فنية، معظمها في فن الخزف، كنت أنحت أعمالاً فنية صغيرة بالخزف، وأقوم بمراحل الحرق لطين و«بلكليز» الدهان اللامع، وشاركتُ في المعارض الفنية السنوية في وطني البحرين وفي ملتقيات فنية بالكويت وسلطنة عُمان وبكوني عضوة في جمعية البحرين للفن المعاصر شاركت في الملتقى الفني الأول الذي نظمته جمعية البحرين للفن المعاصر مؤخراً.
لم يسبق لي النحت بالطين وإنما الخزف، لذا كنت خائفة ًمن الفشل في البداية، ولكنَّ الأستاذ الفنَّان على المحميد هو من شجَّعني حينما عرض عليَّ الفكرة وقال: ستحققين الاستفادة والحقيقة استفدت كثيراَ من خلال تجربتي في نحت عملي الفنِّي هذا بالحجم الطبيعي وعرفت الخطوات التي نبدأ بها هي إعداد الهيكل الحديدي ولم يقصر أخوتي الفنانون وقفوا معي وساعدوني في إعداد الهيكل، وما زلت متعلقة بنصائحهم. يعدُّ هذا هند كاليري للفنان المحميد الملهم لي في النَّحت فهو بمثابة مدرسة تثري الفنانين التشكيليين».
في رواق فني آخر كنت أشاهد منحوتة فنية جميلة راقصة مختلفة بلونها الأبيض فأدركت أنها صُبت بالجبس في قالب من الفيبر جلاس وأدركت أنها من عمل الفناَّن الدكتور المصري أسامة السرويُّ، وهو أستاذ النَّحت المتفرغ، وكان أستاذاَ بكلية التربية الفنية بجامعة حلوان والمستشار الثقافي الأسبق بالسَّفارة المصرية في موسكو. التفت لي قائلاً: «هذا عملي الفنِّي في الملتقى وأنا اليوم أتفاعل مع أصدقائي الفنانين النَّحاتين البحرينيين. اخترت موضوعا مختلفاً، تناولتُ فن الباليه الذي أتأثر به كثيراً، فهو محبب إلى قلبي رغم أن صياغة فن البالية بالنحت يعدُّ عملاً صعباً والصعوبة تكمن فيه لأنه يعتمد على التوازن والرشاقة والرِّقة في المنحوتة والخفَّة على الأرض. فنُّ الباليه عكس الجاذبية الأرضية كما ترى، وهذا القانون عكس النَّحت لأن النَّحت من سماته الاستقرار ورسوخ الكتلة. فأنا عملت راقصة الباليه وهي تهبط على الأرض بحركة طيران، فصورت لحظة الهبوط، فتجد رجلها اليسرى تكاد تلامس الأرض والباقي في الفضاء وهنا تغلبت على فكرة التَّوازن في النَّحت بالتوازن المعكوس مستدلاً بالشجرة فهي تنبت في الأرض بساق وتتفرع أغصانها في الفضاء ولكن تبقى واقفة على نقطة الساق كفكرة الهرم المقلوب».
سألته: ما مقترحك كأستاذ جامعي لكي يستمر التواصل بين فناني الوطن العربي في الملتقيات الفنية في بلدان أمتنا العربية؟ فأجاب: «إنني آمل أن نتمكن من استثمار هذا الملتقي الخليجي الأول الذي نظمته جمعية البحرين للفن المعاصر وذلك بإقامة اتحاد عربي للفنانين التشكيليين أسوة باتحاد المحامين العرب واتحاد الصحفيين العرب واتحاد البرلمانيين العرب، فنحن أيضا كفنانين لنا قضايانا المشتركة وتجد لدينا آمالا وطموحات واحدة ومستقبلنا ومعاناتنا مشتركة أيضاً، ومن خلال الاتحاد سنتمكن من إقامة هذه الملتقيات في مختلف البلدان العربية». وعبَّرَ الفنان الدكتور السرويُّ عن سروره في ملتقي هند كاليري قائلاً: «أرى أن الفنان علي المحميد رجل فدائي فعلاً، فنَّان يتصف بالسَّخاء فقد أعطى من ماله ووقته وجهده وخبراته وعلاقاته العامة وكل ما يملكه من إمكانات فقد وفَّر للفنانين للخامات ما يلزم من أدوات، فهو فنان كبير وشعلة من النَّشاط فيستحق كل التقدير والاحترام».
لاحظت الأستاذ الفنان محسن غريب جاء إلى الملتقى، فاغتنمت هذه الفرصة وسألته: وجدتك في الملتقى الخليجي الأول تعمل ورشة حيَّة في الرَّسم للفنانين، ألديك درس تود إيضاحه. فقال: «اشتغلت مدة سبع عشرة سنة في التقنية اللونية مع الخط العربي، كيف نوظف الخط العربي في الصورة دون تشويه أو تقليل من مستوى جمالها بالإضافة إلى التقنيات اللونية. هذا التكنيك والخبرة التي لديَّ وجدتها أنفع شيء أقدمه لزملائي الفنانين».
وحاورته عن مشاركاته في البحرين وخارجها، ارتسمت على وجهه ابتسامته المعهودة فقال: «شاركت في ملتقيات كثيرة منها بنغلادش والمغرب ومعارض في ألمانيا وعملت تسعين ورشة في الخليج وخارجه على مدى ثماني سنوات، كنت أقدم في ورشاتي بتقنيات مختلفة ومحاور مختلفة لأحقق أكبر استفادة للفنانين والهواة، فمعظم مشاركاتي الورشية خارج البحرين تتناول أعمال النَّحت الميداني والرَّسم والخط العربي، فالملتقيات هي بمثابة مدرسة عظيمة يتعلم منها الإنسان. ولعل الملتقى الخليجي الأول خير مثال فقد ضمَّ عددا كبيرا من الفنانين وأعتبره بكل مصداقية من أفضل الملتقيات التي رأيتها، فهو في حقيقته أربعة ملتقيات في ملتقىً واحد، يزخر بالنحت بأنواعه والرَّسم بأنواعه والخزف والطباعة».
أما الأستاذ الفنان أحمد عبدالتواب فنان مصري فكان يقف بجانب عمله في النحت ويتأمل فيه ويضيف شيئاً من لمساته الفنية فقطعت حبل تأملاته مستأذنا إياه في حديث قصير عن منحوتته فقلت له: أرى عملك الفني مختلفاً ورائعاً، فما الأسلوب الفني الذي تنتمي إليه منحوتتك؟. فابتسم قائلا: «تجسيمي النَّحتي يعبر عن الجسد البشري فكما ترى أنه تمثال لفتاة نستشف منها شكلها رشيقة أما الأسلوب الذي اتبعته في النَّحت فهو الأسلوب الهندسي وأدخلت جزءا من العضويات في الهندسة الموجودة فيه، وبذلك اعتمدت في بنائه على الشَّكل المخروطي مع أشكال هندسية أخرى منها: المثلث والمستطيل، يوجد في نحتي الفنِّي تناغم و تداخل المجسمات الهندسية مع بعضها وربما تجد أن هناك تأثراً بالبيئة فقد يتشابه لحد ما مع شكل الملكة الفرعونية «نفرتيتي» ولكن لستُ متعمداً، ولكننا مصريون متشبعون بالتاريخ الفرعوني».
وتحدث لي على مشاركاته في بلده مصر. فأردف قائلا: «أنا في الحركة الفنية الرَّسمية منذ عام 1999، حيث أقيم أول معرض احترافي نظمته وزارة الثقافة وبعدها توالت المعارض، وما يميز مصر أن عدد سكانها كبير وبها طبقات اجتماعية متباينة من الناحية الاقتصادية ما يدفع يعض المواطنين إلى اقتناء الأعمال الفنية المتميزة».
أما الفنان مهدي البناي فذكر لي وهو يعمل في منحوتته: أنه فنَّان بحريني يزاول الفن من بعد تخرجه قبل خمسة وثلاثين عاماً، تخصصه الخزف ولكن النَّحت شدَّه إليه وسيطر عليه فأسر لبَّه وبذلك تفوق على الخزف. فأصبح حبيس الانبهار في تفاصيل الجسم الإنساني والحيواني وأردف قائلا: «دائماً ما استعمل الجسم الإنساني والحيواني في أعمالي» وقال: «عملت معرضاً تراثياً للأشياء التي نمارسها في صغرنا مثل «الكجه أو الصَّيدة».
وأشار الفنان أحمد عبدالتواب أن الفنون بشكل عام والفن التشكيلي بشكل خاص واللقاءات الفنية تثري الثقافة العامة في كل بلد ومن خلاله تتوطد العلاقات ولذلك نقول للفنان الأستاذ علي المحميد كثر الله من أمثالك ونامل من الشركات ورجال الأعمال الدعم والمساندة، فالفنان المحميد يدعم الفن البحريني بجهوده ويسهم في إثراء الثقافة واحتضان الفنانين والمواهب في مجال الفن التشكيلي ليبقى وطنه متوهجاً بالعطاء الفني ليحقق تقدما في نهضة وطنه الفنية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك