مثلت التغطية الإعلامية الدولية دائما «عاملا مؤثرا»، على النتيجة النهائية للنزاعات والأزمات المسلحة، سواء من خلال العمل كمبرر للتدخل الخارجي، أو عزل المعتدي عن المجتمع الدولي، أو تقويض الدعم المحلي للعمليات العسكرية لبلد ما. ونظرًا إلى أن مراسلي وكالات الإعلام الغربية الرائدة، باتوا الآن «عنصرًا أساسيًا»، في مناطق النزاع الأكثر عنفًا وعزلة؛ فإن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت على النشر الفوري للأخبار في هذه المناطق، يسمح للرأي العام الدولي بتكوين صورة مُحدثة حولها.
وبالنسبة إلى أولئك الذين يسعون إلى إنهاء النزاعات وتهدئة التوترات السياسية، أو ما يُطلق عليهم «الوسطاء»، يمكن أن يكون دور وسائل الإعلام «سلاحا ذا حدين». فمع زيادة احتمالية الاهتمام العالمي بالأحداث؛ هناك إمكانية لتقويض المفاوضات التي يقومون بها في ظل بحث هذه الوسائل عن صياغات مثيرة، وتحقيق سبق صحفي؛ الأمر الذي يهدد النوايا الحسنة اللازمة لنجاح أي محادثات.
ولتحليل هذه الديناميكية بشكل أكبر، كتبت «جنيفر فنتون»، من «كلية لندن للاقتصاد»، تقريرا بعنوان «وسائل الإعلام والوساطة في النزاعات»، موضحة أنه بينما ظهر «عدد كبير من الدراسات حول الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في تصعيد النزاع»؛ فقد كانت هناك دراسة محدودة، حول كيف يمكن للإعلام أن يساعد في الوساطة بالصراعات، ووقف التصعيد. وعليه، رأت أن الوسطاء – الذين يعملون نيابة عن المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة أو الدول المحايدة – «يحتاجون إلى تعلم استخدام وسائل الإعلام بشكل «أكثر فعالية»، لتعزيز السلام وخفض التصعيد، فضلاً عن فوائد اعتماد الوسطاء لاستراتيجيات الاتصال الخاصة بهم لإدارة العلاقات مع وسائل الإعلام والأطراف المتفاوضة على حد سواء.
واستكشافا للعلاقة بين «وسائل الإعلام»، و«الوسطاء»، في النزاعات المسلحة والأزمات الدولية، بما في ذلك في الشرق الأوسط، وصفت الوساطة بأنها عملية «ديناميكية ذات متغيرات متعددة»، تؤثر في نتائجها. وفيما يتعلق باهتمام وسائل الإعلام بهذه الديناميكية، استشهدت بكيف تُظهر الدراسات أن نتائج «تدخلات»، وسائل الإعلام في النزاعات، «غير متوقعة»، حيث تتنافس كيانات متعددة للسيطرة على السرد العام الدولي.
ومع قدرة الصحفيين والمراسلين والأفراد العاديين الآن على توثيق الحرب باستخدام أجهزتهم الشخصية، ونقل ما لديهم إلى الناس في جميع أنحاء العالم وقت حدوثه؛ أشارت «فنتون»، إلى كيفية مشاركتهم أيضًا «في تغطية عمليات الوساطة» – وإن لم يكن ذلك دائمًا بطريقة إيجابية – موضحًة كيف توجد «منافسة» بين المراسلين والوسطاء، حيث «سيحاول الأول التلاعب بالآخر، والعكس صحيح».
وفي حين أن بمقدور وسائل الإعلام ذات السمعة الطيبة، أن توفر من ناحية «معلومات موثوقة» للمفاوضين لتعزيز جهودهم لحل النزاعات؛ فإن الصياغات غير الدقيقة للأحداث، يمكن أن تؤدي أيضًا إلى «التشويه والتبسيط والتضليل»، ومن ثمّ تقويض المحادثات.
ولتقديم شرح أكثر للمصالح المتنافسة بين «وسطاء النزاع»، و«الصحفيين»، أشارت إلى الكيفية التي يحاول فيها الوسيط «إدارة المناقشات بطريقة لا تزيد من تفاقم الاختلافات» بين طرفي النزاع، في حين أن «الهدف الرئيسي» للصحفيين يظل «إبلاغ الرأي العام وتحديد ما يجب تصديقه». من ناحية أخرى، فإن تأثير «البيئة الإعلامية المضللة»، عبر الإنترنت التي تتضمن عدم التأكد من صحة الأحداث -بخلاف وسائل الإعلام التقليدية ذات المعايير التحريرية – يمكن أن يعقد عمليات الوساطة عن طريق نشر أخبار ومعلومات وتحليلات متناقضة.
وهناك عامل آخر يؤثر في اهتمام وسائل الإعلام بمناطق النزاع، وهو وجود كبار المسؤولين والقادة. وأشارت «فنتون»، إلى أن المشاركة الشخصية لرئيس الدولة، أو وزير الخارجية، تمنح «اهتمامًا إخباريًا»، للجهود الدبلوماسية الرامية إلى وقف التصعيد وحل النزاعات، أكثر من حضور صغار المسؤولين، الذين ترى أن وسائل الإعلام أقل «اكتراثا بهم».
وكمثال على هذه الديناميكية، حظيت زيارة «أنتوني بلينكين»، وزير الخارجية الأمريكي لإسرائيل وفلسطين في أواخر يناير 2023 – في فترة تصاعدت فيها التوترات- باهتمام أكبر بكثير من وسائل الإعلام الغربية، من الزيارة التي قامت بها «باربرا ليف»، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى للمنطقة، على الرغم من كونها زيارة طويلة، وتضمنت مناقشات أكثر تفصيلاً مع الجهات الفاعلة الإقليمية حول جهود خفض التصعيد.
ومع ذلك، فإن طبيعة العلاقة بين وسطاء النزاع، ووسائل الإعلام، يجب أن تتسم بـ«الثقة المتبادلة». وأشارت الباحثة إلى أهمية قيام الوسطاء «بتعزيز ثقة أولئك الذين يتعاملون معهم»؛ لأن هذا يتيح إجراء مناقشات «أكثر صراحة»، حول النتائج المستقبلية والتنازلات. وفي حالة العلاقات المبنية على أساس «مستوى عالٍ من الثقة»، فإن الاستخدام غير الحكيم لوسائل الإعلام العالمية، «كأداة ضغط» لدفع المحادثات، قد يكون له تأثير غير مرغوب فيه، لتقويض هذه الثقة وانهيار المحادثات التقدمية.
وكدراسة حالة، تمت الإشارة إلى عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية. ففي حين أن الصحفيين «يطلبون البساطة والإثارة»، حتى يمكن نقل تغطيتهم إلى الجماهير؛ فإن تعقيد إقامة سلام طويل الأمد بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يعني أن العملية تتميز بمفاوضات «مملة»، ليست أكثر جذبا، كما تسعى إليه وسائل الإعلام الإخبارية.
علاوة على ذلك، فإنه نظرًا إلى أن العديد من التطورات المهمة والاختراقات الدبلوماسية، «يجب أن تقع سرًا خلف الأبواب المغلقة»، فقد يكون هناك تفاوت في الحاجة الملحة إلى تغطية إعلامية سريعة لجهود كل الوسطاء في هذا الصدد من قبل الصحفيين، الواقعين تحت وطأة ضغط شبكاتهم الإعلامية، للحصول على الأنباء المثيرة، والسبق الحصري للأخبار.
من جانبه، حذر «يان إيجلاند»، الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، من المخاطر التي قد يتعرض لها رموز «الصحافة ووسائل الإعلام المعادية أو المعارضة»، مشيرًا إلى أنه قبل «اتفاقية أوسلو»، عام 1993، كان الصحفيون، بلا استثناء «يواجهون بشكل متكرر»، سيلا من «الاتهامات من جانب عدد من المفاوضين الدوليين»، وهو ما يؤدي حتمًا إلى ردود فعل أكثر عدوانية في المقابل».
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الدولية، قد تكون مصدر إزعاج للمفاوضات، التي تسعى إلى إيجاد أرضية مشتركة بين الأطراف المتنازعة، وإرساء أسس المداولات حول تقديم التسويات المحتملة؛ فإنه لا يمكن التقليل من تأثيرها وأدوارها المهمة.
وكما أشارت «فنتون»، فإن المنافذ والشبكات الإعلامية الرائدة عالميا؛ مثل الـ«بي بي سي»، و«سي إن إن»، و«نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست»، غالبًا ما تكون هي التي تملي «ما جوانب الصراع وملامحه وأوجهه التي قد يتم تغطيتها؛ فضلا عن وقت البث أو مقدار تغطية الصفحة التي ستتطرق للنزاع»، والأهم من ذلك كله»، تحديد من يتحدث عن هذا الصراع في وسائلها الإعلامية».
علاوة على ذلك، فإن تأثير السياسة التحريرية، وأولوياتها، دائما ما يطغى على دورة الأخبار العالمية؛ فمثلا بعد مرور أكثر من عام من بدئها، لا تزال «الحرب الأوكرانية»، محل تغطية وثيقة من كل وسائل الإعلام الغربية الرئيسية، خاصة مع تقديم عديد من التحليلات اليومية والأسبوعية لمتابعيها. وبالمقارنة، فإن آخر المستجدات بشأن تصاعد وتيرة العنف في إسرائيل وفلسطين والسودان، كثيرًا ما يتم تحويلها إلى مقالات عرضية، ليست بنفس أهمية الحرب الأوكرانية، رغم ردود الفعل على هذا التصعيد بتلك المناطق.
وتأكيدًا لهذا التحليل، أشارت الناطقة الرسمية السابقة باسم الوفد الفلسطيني لعملية السلام في الشرق الأوسط، «حنان عشراوي»، إلى أن التغطية الإعلامية الغربية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، تقود المجتمع الدولي إلى «الافتراض بأن هناك طرفين متساويين»، وهو ما يعد «تناقضًا صارخًا» مع الواقع، حيث إن إسرائيل تتمتع بترسانة عسكرية متطورة، بالإضافة إلى سيطرتها سياسيًا واقتصاديًا على حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وعند تفسير ذلك، أشارت إلى أن إسرائيل سيطرت منذ فترة طويلة على إدارة الملف الإعلامي لهذا النزاع في وسائل الإعلام الغربية؛ ما يعني أن صورة الفلسطينيين «يتم عرضها من خلال عيون إسرائيلية»، وهو نظام ينتج عنه بشكل متوقع، دعم الصور النمطية المعادية للفلسطينيين»، عبر التغطية الإعلامية الغربية.
وعلى سبيل المثال، تم تسليط الضوء على الاختلافات في تغطية النزاعات الحالية. ففي حين ذكرت شبكة «بي بي سي»، في تغطيتها للحرب الأوكرانية، أن المبررات الروسية لعمليتها العسكرية، «ليس لها أساس في الواقع»، وأن النجاحات العسكرية لها كانت «ضئيلة ونادرة في آن واحد»، فضلا عن تأكيد خطورة الجماعات المسلحة المناهضة لبوتين داخل روسيا، والتشكيك في مستقبل قيادته للكرملين؛ فقد ذهبت في تغطيتها للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلى التركيز على تناول خطورة «سلسلة الهجمات الفلسطينية» التصعيدية منذ مارس 2022، دون أدنى تناول لسياسات حكومة «نتنياهو»، الائتلافية اليمينية المتطرفة، أو حتى زيادة الهجمات والانتهاكات الصارخة ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ووسط الإدانة الخافتة، التي تشير إلى أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة «تعد غير قانونية بموجب القانون الدولي»؛ فإنها تتناقض مع الإدانة واسعة النطاق في وسائل الإعلام الغربية، لضم روسيا للأراضي الأوكرانية.
وعلى الرغم من أن العلاقات بين «الوسطاء الدوليين»، و«وسائل الإعلام»، تبدو «معقدة»؛ بسبب المخاوف المتعلقة بالموثوقية والسرية؛ فقد أصرت «فنتون»، على أن المفاوضين الدوليين في الأزمات والنزاعات، «يمكن أن يفضلوا التعامل مع وسائل الإعلام»، لمساعدتهم في عرض روايات، قد تعزز تقدم المفاوضات نحو تسوية أزمة ما.
واستنادًا إلى حجة أن المفاوضين الدوليين في الوقت الحالي، «لا يميلون إلى التواصل ومشاركة آرائهم عبر وسائل الإعلام»؛ فقد أوصت الباحثة، «بضرورة الاهتمام باستراتيجيات التواصل التي يمكن أن تعزز أهدافهم التفاوضية»، وذلك لغرض أساسي، هو الاستفادة من «التحولات الأيدولوجية»، في عقلية الشعوب الأوروبية والأمريكية عبر التغطيات الغربية، بما يخدم قضية ما.
وفيما يتعلق بالجوانب العملية لاستخدام وسائل الإعلام للدفع قدمًا، بعملية خفض التصعيد مع الحفاظ على ثقة الأطراف المتفاوضة في المحادثات المغلقة؛ استشهدت «فنتون»، بمثال اتفاق «الجمعة العظيمة»، أو «اتفاق بلفاست»، هو اتفاق تم التوقيع عليه سنة 1998، بين بريطانيا وجمهورية أيرلندا وأحزاب أيرلندا الشمالية، حيث تم إعداد البيانات والتصريحات مسبقًا والخاصة بالمفاوضات لكل من حزب «الشين فين»، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي، والحزب الديمقراطي الوحدوي، للتأكد من أن كلا الجانبين، لن يقول «شيئًا من شأنه أن يتعارض مع ما قاله الجانب الآخر».
على العموم، خلصت «فنتون»، إلى أنه في حين أن قدرة الوسطاء الدوليين على «السيطرة على سردية أية أحداث»، أثناء الأزمة أو المحادثات المعنية بخفض التصعيد، ستكون «محدودة دائمًا»، بسبب المصالح المتنافسة لهؤلاء الوسطاء، والرغبة الملحة من وسائل الإعلام لتأمين قصة حصرية أو أقصى قدر من الإثارة لجذب انتباه الجماهير؛ فإنه يمكن أن تكون هذه المنافذ الإخبارية، أيضا «أداة مجدية»، ضمن استراتيجيات قادرة على تعزيز أهداف الوسطاء الخاصة.
ومن الواضح أن إقامة علاقات قوية مع كل وسائل الإعلام على أسس من الشفافية والثقة، من شأنها أن تفيد في خفض تصعيد النزاعات من خلال تقليل احتمالات، سوء التواصل، وانتشار المعلومات المضللة المتعمدة. وفي حالة القضية الفلسطينية، فإن الاعتماد الثابت على مصدر معلومات واحد، هو إسرائيل، من قبل وسائل الإعلام الغربية، يعكس حالة من عدم التوازن، التي يجب معالجتها لدفع محادثات السلام قدمًا، وحتى يتم تحقيق ذلك، فإن الجهود المبذولة لتحقيق ما يكفي من الضغط على الحكومة الإسرائيلية لعكس سياساتها التعسفية في الأراضي المحتلة من المرجح أن تفشل في التقدم إلى المستوى المنشود.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك