العدد : ١٧٠٥٨ - الخميس ٠٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٨ - الخميس ٠٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

اللمسة الإنسانية!

{‭ ‬وأنا‭ ‬مازلت‭ ‬أتأمل‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬‮«‬التيك‭ ‬أوي‮»‬‭ ‬وزمن‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬التفاهة‮»‬‭ ‬والذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬لدى‭ ‬الروبوتات،‭ ‬والفقر‭ ‬الفكري‭ ‬لدى‭ ‬غالبية‭ ‬البشر‭ ‬قياسا‭ ‬لما‭ ‬كانوا‭ ‬عليه‭ ‬قبل‭ ‬زمن‭ ‬الآلة،‭ ‬صادفني‭ ‬موضوع‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬المجرى‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬والتأمل‭ ‬في‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬التسارع‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬المعلومات،‭ ‬والتأخر‭ ‬أو‭ ‬الخلق‭ ‬المعرفي‭ ‬البشري‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬الخدمات‭ ‬في‭ ‬الإنترنت،‭ ‬وتسهيل‭ ‬إيصال‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الخروج،‭ ‬أو‭ ‬التسوق‭ ‬أو‭ ‬المشي‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬القديمة‭ ‬والحديثة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬دون‭ ‬الاحتكاك‭ ‬بالبشر‭! ‬وإنما‭ ‬تعميق‭ ‬الصلة‭ ‬بالآلة‭ ‬والجهاز‭ ‬والشاشة‭ ‬والكمبيوتر،‭ ‬والتطلع‭ ‬إلى‭ ‬امتلاك‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الأجهزة‭ ‬الذكية‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬التي‭ ‬توفر‭ ‬الجهد‭ ‬في‭ ‬الغسيل‭ ‬وفي‭ ‬الطبخ‭ ‬وبعضها‭ ‬ضروري‭ ‬وآخر‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬وإعداد‭ ‬الوجبات‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬بدورها‭ ‬تباع‭ ‬جاهزة‭ ‬مجمدة‭ ‬وما‭ ‬عليك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تضعها‭ ‬في‭ ‬‮«‬الميكرويف‮»‬‭.. ‬أو‭ ‬‮«‬جهاز‭ ‬الطهي‭ ‬الهوائي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬قائمة‭ ‬تلك‭ ‬الأجهزة،‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬الأسواق‭ ‬الدعائية‭ ‬تمتلئ‭ ‬بها‭ ‬والناس‭ ‬تلهث‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭!‬

{‭ ‬الموضوع‭ ‬الذي‭ ‬صادفني‭ ‬هو‭ ‬عن‭ ‬شاب‭ ‬أمريكي‭ ‬رافق‭ ‬والده‭ ‬إلى‭ ‬البنك‭ ‬لتحويل‭ ‬مبلغ‭ ‬مالي‭ ‬فقضى‭ ‬ساعة‭ ‬في‭ ‬الانتظار،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الشاب‭ ‬وهو‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬تحويل‭ ‬والده‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الخدمات‭ ‬المصرفية‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬سيصل‭ ‬إليه‭ ‬وبسهولة‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬جهد‭ ‬أو‭ ‬انتظار،‭ ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬للأب‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬أخرى‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬فيها‭ ‬كثيراً‭ ‬‮«‬الجيل‭ ‬الراهن‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬السهولة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬قد‭ ‬يفقد‭ ‬معها‭ ‬أشياء‭ ‬مهمة‭ ‬وإنسانية‭!‬

قال‭ ‬يا‭ ‬بني‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬البنك‭ ‬هذا‭ ‬الصباح‭ ‬قابلت‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬أصدقائي،‭ ‬كما‭ ‬تبادلت‭ ‬الحديث‭ ‬مع‭ ‬الموظفين‭ ‬الذين‭ ‬باتوا‭ ‬الآن‭ ‬يعرفونني‭ ‬جيدا‭! ‬أنت‭ ‬تعرف‭ ‬أني‭ ‬وحيد‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬الرفقة‭ ‬التي‭ ‬أحتاج‭ ‬إليها‭. ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أتهيأ‭ ‬للحضور‭ ‬إلى‭ ‬البنك‭. ‬لدي‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬وما‭ ‬أحتاج‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬اللمسة‭ ‬الإنسانية‭! ‬عندما‭ ‬مرضت‭ ‬جاء‭ ‬صاحب‭ ‬المتجر‭ ‬الذي‭ ‬أشترى‭ ‬منه‭ ‬الفواكه‭ ‬وجلس‭ ‬بجانب‭ ‬سريري‭ ‬يواسيني‭ ‬ثم‭ ‬أجهش‭ ‬بالبكاء‭. ‬وعندما‭ ‬سقطت‭ ‬والدتك‭ ‬قبل‭ ‬يومين‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أثناء‭ ‬ممارسة‭ ‬رياضة‭ ‬المشي‭ ‬الصباحية‭ ‬رآها‭ ‬صاحب‭ ‬متجر‭ ‬البقالة‭ ‬وعلى‭ ‬الفور‭ ‬أحضر‭ ‬سيارته،‭ ‬وهرع‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬يعرف‭ ‬أين‭ ‬نقطن‭! ‬هل‭ ‬سأجد‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬اللمسات‭ ‬الإنسانية‭ ‬إذا‭ ‬أجريت‭ ‬كل‭ ‬معاملة‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت؟‭! ‬لماذا‭ ‬إذًا‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يوصل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬ما‭ ‬يجبرني‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬فقط‭ ‬مع‭ ‬جهاز‭ ‬الكمبيوتر؟‭! ‬أنا‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬أتعامل‭ ‬معه،‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬البائع،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يخلق‭ ‬رابطة‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭.. ‬هل‭ ‬تفعل‭ ‬أمازون‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً؟‭! ‬التقنية‭ ‬جامدة‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬لها‭ ‬وأنا‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أقضي‭ ‬الوقت‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬لا‭ ‬مع‭ ‬الأجهزة‭!‬

{‭ ‬أعتقد‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الآب‭ ‬لابنه‭ ‬هو‭ ‬الدرس‭ ‬البليغ‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬أبناء‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭! ‬ويحتاج‭ ‬إليه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يلهث‭ ‬وراء‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭ ‬ويذوب‭ ‬فيه‭! ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬جميعا‭ ‬هو‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬دفء‭ ‬الحياة‭ ‬ودفء‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬بل‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬اللمسة‭ ‬الإنسانية‭! ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الطبيعة‭ ‬ومفرداتها‭ ‬الحميمة‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬الأكل‭ ‬وفي‭ ‬التسوق‭ ‬والمشي‭ ‬في‭ ‬الأمكنة‭ ‬القديمة‭ ‬والحديثة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نصاب‭ ‬بالجمود‭ ‬والتعطل‭ ‬والصدأ‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬لآلات‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬استخدامها‭! ‬إنسان‭ ‬بلا‭ ‬حركة،‭ ‬بلا‭ ‬علاقات‭ ‬إنسانية‭ ‬قريبة‭ ‬بلا‭ ‬تفاعل،‭ ‬تتعطل‭ ‬ملكاته‭ ‬الفطرية‭ ‬إحساسا‭ ‬وتفكيرا‭ ‬وحركة‭! ‬فإذا‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬السهولة‭ ‬إلى‭ ‬دائرة‭ ‬الحركة‭ ‬نكون‭ ‬بشرا،‭ ‬أما‭ ‬قضاء‭ ‬الوقت‭ ‬مع‭ ‬الأجهزة‭ ‬تجعلنا‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الآلة،‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬استغرق‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬طويلاً‭ ‬وكثيراً،‭ ‬ولكأن‭ ‬مغريات‭ ‬عوالم‭ ‬الافتراض‭ ‬والوهم‭ ‬والصداقات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬تطغى‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬نسيان‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭! ‬لنقع‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الاغتراب‭ ‬والاكتئاب‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمثل‭ ‬اليوم‭ ‬أيضا‭ ‬ظاهرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬بالتدريج‭ ‬اقتلاع‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬حضن‭ ‬الطبيعة‭ ‬والألفة‭ ‬والحركة‭ ‬والعلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتجمعات‭ ‬الأسرية‭ ‬الدافئة‭ ‬وحكايات‭ ‬الجد‭ ‬والجدة‭ ‬وروعة‭ ‬اكتشاف‭ ‬العوالم‭ ‬في‭ ‬الخيال‭ ‬الإنساني،‭ ‬إلى‭ ‬حضن‭ ‬الآلة‭ ‬والعوالم‭ ‬الافتراضية‭ ‬التي‭ ‬يتفاقم‭ ‬سطوتها‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬دافع‭ ‬لاستخدام‭ ‬العقل،‭ ‬أو‭ ‬الخيال،‭ ‬فالأجهزة‭ ‬الذكية‭ ‬تفكر‭ ‬بالنيابة،‭ ‬وتعطي‭ ‬كل‭ ‬الحلول‭! ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬لا‭ ‬يساوي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬شيئاً‭ ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬فقده‭ ‬وافتقاده‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭! ‬وبالأخص‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬اللمسات‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تشعرنا‭ ‬بأننا‭ ‬بشر‭ ‬واستثنائيون‭ ‬وطبيعيون‭ ‬وحالمون‭ ‬وخياليون‭ ‬ونمتلك‭ ‬قلوبا‭ ‬مليئة‭ ‬بالمحبة‭ ‬والدفء‭! ‬مع‭ ‬الآلة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬ذلك‭! ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬امتلكت‭ ‬الآلة‭ ‬أغلب‭ ‬وقتنا‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا