كانت –ولاتزال– حماية الملاحة البحرية في الخليج العربي أحد أبرز مضامين السياسات الأمنية للدول الكبرى تجاه تلك المنطقة، بالإضافة إلى استحواذها على جل اهتمام دول الخليج العربي ودول المنطقة عموماً، إلا أنه بالمقارنة بين منطقة الخليج العربي ومناطق أخرى من العالم تواجه تهديدات أمن الملاحة البحرية ذاتها نجد أن تلك المناطق ومن بينها بعض دول الآسيان قد نجحت في تأسيس مدونة سلوك ثلاثية كآلية لمواجهة تلك التهديدات، بالإضافة إلى تأسيس المدونة ذاتها لمواجهة أعمال القرصنة في غرب ووسط إفريقيا، إلا أن المشهد في الخليج العربي يبدو مغايراً حيث كانت التحالفات المؤقتة أو بالأحرى تحالفات الضرورة هي آلية مواجهة تلك التهديدات، بل الأهم ظهور مقترحات مؤخراً مفادها تأسيس تحالفات جديدة ، فما هي تلك التحالفات وهل تعد آليات فاعلة وذات ديمومة لحماية الملاحة البحرية في الخليج العربي؟ الإجابة عن تلك التساؤلات هي جل هذا المقال.
التحالف الأبرز كان الذي أعلنته إدارة الرئيس ريجان في الثمانينيات خلال الحرب العراقية- الإيرانية آنذاك ومع بدء استهداف ناقلات النفط الخليجية من جانب طرفي الحرب فيما عرف «بحرب الناقلات»، ومن ثم رفع الكويت العلم الأمريكي على سفنها لحمايتها، ما حدا بالرئيس ريجان لتأسيس «تحالف الراغبين» وتشير التقديرات إلى أن عدد السفن الغربية بلغ في ذروة ذلك التدخل حوالي 40 سفينة، وعلى الرغم من أهمية ذلك التحالف فإنه لا ينفصل عن واقع البيئة الدولية آنذاك، ففي شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي في 16 يونيو 1978 قال ميتشل أرماكوست وكيل وزارة الخارجية الأمريكية إن هذا القرار يستند إلى ثلاثة أسس وهي ضمان تدفق النفط عبر مضيق هرمز والتعاون مع دول الخليج العربي لتحقيق الأمن والاستقرار وتحجيم النفوذ السوفيتي في منطقة الخليج العربي، التحالف الثاني الأبرز هو التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة البحرية في الخليج العربي في نوفمبر 2019 بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وعضوية 6 دول وهي: السعودية والإمارات والبحرين وبريطانيا وأستراليا وألبانيا في مهمة أطلق عليها اسم «سنتينال» وتستهدف حماية الملاحة البحرية في مياه الخليج العربي مروراً بمضيق هرمز نحو بحر عمان ووصولاً إلى باب المندب في البحر الأحمر، وفي عام 2020 أعلنت فرنسا قيادة بعثة أوروبية لضمان حرية الملاحة في مضيق هرمز بدعم كل من ألمانيا وبلجيكا والدنمارك واليونان وإيطاليا وهولندا والبرتغال وتتمثل مهمتها في التوعية بتهديدات الملاحة البحرية في تلك المنطقة، وفي عام 2022 أعلنت الولايات المتحدة تأسيس قوة بحرية مشتركة لحماية الملاحة في منطقة الخليج العربي وتضم حوالي 38 دولة، وفي مقابل تلك التحالفات الدولية كانت هناك مبادرات إقليمية من بينها مبادرة المملكة العربية السعودية بتأسيس مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن عام 2020 والذي يضم إلى جانب المملكة كلا من مصر والأردن وإريتريا واليمن والسودان وجيبوتي والصومال، ووفقاً للتصريحات الرسمية السعودية فإنه من بين أهداف ذلك المجلس «تأمين الملاحة البحرية في الممر المائي الدولي والتنسيق والتشاور حول ذلك الممر الحيوي باعتبار أن البحر الأحمر هو المعبر الرئيسي للتجارة العالمية بين دول شرق آسيا وأوروبا»، وأخيرا وليس آخرا إعلان الأميرال شهرام إيراني قائد القوات البحرية في الجيش الإيراني في 2 يونيو 2023 أن إيران تسعى إلى تشكيل تحالف بحري يضم دولاً خليجية حددها بكل من «السعودية والعراق وقطر والإمارات والبحرين وقطر» بالإضافة إلى كل من روسيا والصين والهند وباكستان.
ومع أهمية التحالفات السابقة كآليات لحماية الملاحة البحرية في منطقة الخليج العربي فإنها تعكس ثلاث ملاحظات الأولى: إن كل التحالفات الدولية قد ارتبط تأسيسها إما بأزمة مثلت تهديداً للملاحة البحرية وبالتالي كان استمرار تلك التحالفات مرتبطاً بالأزمة ذاتها مثل الاعتداءات على ناقلات النفط خلال الحرب العراقية – الإيرانية، ولم يكن هناك توجه دولي إلى توظيف الاهتمام الدولي الأممي في تأسيس آلية دائمة لحماية الملاحة البحرية في الخليج العربي، فخلال تلك الحرب نجحت دول الخليج العربي في استصدار ثلاثة قرارات أممية نص اثنان منها صراحة على حرية الملاحة البحرية في الخليج العربي طبقاً لقواعد القانون الدولي، والثانية: إنه على الرغم من مشاركة الدول الأوروبية بسفن لحماية الملاحة البحرية خلال الحرب العراقية الإيرانية جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة بعد تردد بعضها في هذا الشأن فإن الأمر بدا مغايراً في أعقاب الاعتداء على ناقلات النفط في الخليج العربي عام 2019 ففي مقابل التحالف العسكري لأمن الملاحة البحرية كانت البعثة الأوروبية لمراقبة الملاحة في مضيق هرمز ومع الأخذ بالاعتبار تكامل عمل الآليتين ولكنهما يعكسان رؤيتين لطبيعة التهديدات ومن ثم كيفية مواجهتها، والثالثة: التداخل في التزامات دول الخليج العربي ما بين الأطر الإقليمية وتلك الدولية.
وفي ظل ظهور رؤى إقليمية جديدة لتأسيس تحالفات بحرية جديدة فإن العديد من التساؤلات تطرح ذاتها من بينها إن التحالفات غالباً ما تكون ضد تهديدات، فهل هناك اتفاق على طبيعة تلك التهديدات؟ فضلاً عن التساؤلات بشأن تأثير تلك المقترحات الجديدة على التزامات الدول في التحالفات القائمة بالفعل للغرض ذاته؟، وأخيراً مدى استعداد الأطراف الدولية المشار إليها لأن تكون جزءا من تلك التحالفات، فبعضها حدد مصالحه الاستراتيجية في منطقة الخليج العربي بالبعد الاقتصادي والبعض الآخر أعلن بالفعل مبادرات لأمن الخليج العربي لم تكن حماية الملاحة البحرية من بين بنودها، والبعض الآخر لديها بالفعل علاقات أمنية مع دول الخليج العربي تعكسها بعض المناورات البحرية من آن إلى آخر.
وفي تقديري إن أمن الملاحة البحرية في الخليج العربي مسألة تتجاوز الأطراف الإقليمية لتطال دول العالم كافة في ظل محورية دور مضيقي هرمز وباب المندب في الملاحة البحرية، ومن خلال تجارب التحالفات البحرية لأمن الملاحة في تلك المنطقة فإنه يجب التفكير في ثلاث آليات الأولى: أن تكون هناك قرارات أممية ترتكز عليها أي جهود لحماية الملاحة البحرية في الخليج العربي وتكون ملزمة للجميع، والثانية: حال صعوبة التوصل إلى اتفاقات إقليمية فيمكن التفكير في تأسيس مدونات سلوك لحماية الملاحة البحرية على غرار مناطق مختلفة من العالم، والثالثة: في ظل كون أن تهديدات الملاحة البحرية تعد تحدياً لكل الدول على الصعيدين الإقليمي والعالمي فإن أي تحالفات تؤسس لهذا الغرض يجب أن تكون حاصل جمع جهود تلك الدول، كل دولة بما لديها من قدرات بإمكانها الإسهام في تلك التحالفات، ولكن يظل نجاح أي من تلك التحالفات مرتهنا بالاتفاق على مصادر تهديد الملاحة البحرية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك