لفت انتباهي المقال المنشور في مجلة «الإيكونومست» البريطانية (The Economist) العريقة في الأول من يونيو 2023 تحت عنوان: «انهيار الخصوبة العالمية، مع عواقب اقتصادية عميقة». فهذا المقال يتطرق إلى قضية حيوية في غاية الأهمية مرتبطة باستدامة حياة الإنسان على وجه الأرض، وهي قضية «خصوبة الإنسان»، أو حالات العقم التي تصيب بعض البشر، حيث نبه إلى ظاهرة دولية تعاني منها الكثير من دول العالم في المشرق والمغرب على حدٍ سواء، وهي تزعزع وتدهور معدلات مستوى الخصوبة على المستوى الدولي خلال السنوات الماضية، مخالفاً ومعارضاً بذلك التوقعات والنظريات التي أُطلقتْ في القرن الماضي حول الانفجار السكاني العالمي، وزيادة أعداد المواليد بدرجة مفرطة سنة بعد سنة منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية الأولى قبل أكثر من 270 عاما، بحيث إن موارد وثروات الكرة الأرضية لا تستطيع مواكبة وملاحقة هذا المد السكاني العالمي المطرد، واستيعاب البشر الذين يعيشون على سطح الأرض من توفير الغذاء، والكساء، والطاقة، وسبل العيش الكريمة.
فعلى سبيل المثال، في عام 2000، كان معدل نسبة الخصوبة في العالم 2.7 ولادة لكل امرأة، أي أعلى من معدل نسبة الإحلال وهو 2.1، ما يعني وجود حالة من التوازن الطبيعي بين عدد المواليد وعدد الوفيات، أو عدد المتقاعدين والخارجين عن الخدمة والوظيفة وسوق العمل، وعند هذه الحالة يكون هناك استقرار وثبات وتوازن في المعادلة السكانية بين طرفي المعادلة، الداخل فيها، أو الطرف الأول من المعادلة، وهو عدد المواليد الذين يدخلون الحياة الدنيا مقارنة بالخارج منها وهو عدد الوفيات والشواغر الوظيفية.
ولكن هذه الحالة المتزنة والمستقرة للبشر لم تدم طويلاً، إذ انكشف نمط جديد للمعادلة السكانية الدولية وتمثل في انخفاض ونقصان في الخصوبة وتحلل وتفكك المعادلة بين الطرفين، فقد سجل المعدل العالمي للخصوبة تدهوراً وانخفاضاً في كل سنة طوال العقود الماضية مقارنة بمعدلات الإحلال، فبلغ 2.49 في عام 2019، وأخيراً اليوم، وفي عام 2022 وصل إلى ذروته وإلى الرقم القياسي في الانخفاض، وهو 2.3 ولادة لكل امرأة في معظم دول العالم، حتى الدول الغنية والمتقدمة والثرية منها، إلى جانب الهند والصين والبرازيل وتايلاند والمكسيك.
ولهذه الظاهرة المستجدة تداعيات كثيرة تنعكس على حياة الناس وعلى المجتمع برمته، كما أنها نجمت عن عوامل وأسباب متعددة ومختلفة. أما التداعيات الخطيرة التي تهدد المجتمعات البشرية فهي اقتصادية واجتماعية وتتمثل في تحطم المعادلة السكانية المتوازنة، وإحداث شرخٍ وخلل وحالة من عدم الثبات والاستقرار في المجتمعات، سواء أكان الاستقرار الاجتماعي أو السياسي والأمني. فعندما تقل معدلات الخصوبة، يعني ذلك انخفاضاً في نسبة المواليد، ما لا يتناسب ولا يحل محل الذين لقوا نحبهم، أو الذين خرجوا من سوق العمل ويتلقون راتباً تقاعدياً من دون أن يكون لهم دور في سير قطار التنمية، أو في العملية الإنتاجية، فيحدث فراغاً واسعاً وفجوة كبيرة تزيد يوماً بعد يوم، فيفجر أزمة عالمية، أو إقليمية، أو قومية في ميزانية الدول من جهة، وفي وجود نقص شديد في الأيدي العاملة والمدربة ذات الخبرة العالية والطويلة التي تستطيع الإمساك بعجلة التنمية في كل بلد من جهة أخرى.
وهناك عدة أسباب تقف وراء هذا النمط الجديد في الانخفاض المستمر في معدلات الخصوبة على المستوى الدولي، منها الفقر، ومستوى التعليم، والخدمات الصحية وبخاصة للمرأة الحامل أثناء وبعد الولادة، وارتفاع كلفة تربية الطفل، وموت الأجنة قبيل أو بعد الولادة، إضافة إلى سلوكيات وممارسات المرأة اليومية من التدخين، والبدانة، والتغذية غير المعتدلة وغير المتنوعة. وأخيراً هناك العامل البيئي الذي يتم عادة تجاهله وغض الطرف عن تداعياته، أو عدم التركيز عليه وعلى دوره الكبير في خصوبة الرجل والمرأة، والذي يتمثل في تلوث الهواء الجوي، والتعرض للملوثات السامة التي تؤثر في الحمل وعلى الجنين في بطن أمه وبعد أن يلج إلى الحياة الدنيا.
وهناك عدة مظاهر وصور لتأثيرات تلوث الهواء والتعرض للملوثات في مكونات البيئة بالنسبة إلى الخصوبة، منها ما ينعكس على أعداد ونوعية وحجم الماء المَهِين، أو الحيوانات المنوية التي هي أساس الحياة والمؤشر الرئيس الذي يقيس خصوبة الرجل، ومنها ما يؤثر في الجنين وهو في رحم أمه فيؤدي إلى الإجهاض، أو الولادة المبكرة، أو ولادة طفل منخفض الوزن والحجم، أو ولادة طفل ميت أو معوق ومصاب بأمراض مزمنة.
أما بالنسبة إلى الحيوانات المنوية التي لا خصوبة للإنسان من دون ضمان صحتها وسلامتها وحجمها، فقد أجمعت الدراسات التي أُجريت منذ التسعينيات من القرن المنصرم كالدراسة المنشورة في 12 سبتمبر عام 1992 في مجلة الأطباء البريطانيين(British Medical Journal) تحت عنوان: «الدليل على انخفاض نوعية الحيوانات المنوية خلال الخمسين سنة الماضية»، والدراسة المنشورة في مجلة(Human Reproduction Update) في 15 نوفمبر 2022 تحت عنوان: «الأنماط الزمانية لعدد الحيوانات المنوية: مراجعة تحليلية للعينات التي جمعت دوليا في القرنين 20 و 21»، على أن هناك انخفاضاً مشهوداً في أعداد ونوعية وصحة الحيوانات المنوية مع الزمن في معظم دول العالم، المتقدمة والمتطورة والنامية. كذلك الدراسة المنشورة في مجلة «شؤون صحة البيئة» (Environmental Health Perspectives) في سبتمبر 2022 تحت عنوان: «العلاقة بين السكن بالقرب من شوارع رئيسة ونوعية الحيوانات المنوية». وقد أشارت هذه الدراسات إلى أن من أسباب تدهور الحيوانات المنوية نوعياً وكمياً هي العيش في بيئات ملوثة والتعرض للملوثات مثل غاز الأوزون، والدخان أو الجسيمات الدقيقة، والبنزين، والمركبات العضوية العطرية التي تحتوي على الكلورين، والمواد التي تضاف عند إنتاج البلاستيك، ومصادر هذه الملوثات لا تعد ولا تحصى منها السيارات، والسجائر، والبخور، والأثاث المنزلي، والهواء العادي الملوث، والمبيدات.
وفي المقابل هناك الآلاف من الدراسات التي تسبر غور العلاقة بين العوامل البيئية كتلوث الهواء والتعرض للملوثات في الماء والتربة والمواد الغذائية ومظاهر وصور تدني مستوى الخصوبة. فهناك دراسة منشورة في مجلة «شؤون صحة البيئة» في العدد الصادر في أغسطس 2022 تحت عنوان: «تلوث الهواء والتكاثر: التركيز على البعد السريري»، وهذه الدراسة التي قامت بمراجعة وتقييم الدراسات السابقة أشارت إلى أن تلوث الهواء يؤثر سلباً في التكاثر البشري من حيث تدهور الخصوبة، ومشكلات في نمو الجنين في الرحم، ونتائج سلبية في الحمل والولادة. ودراسة أخرى منشورة في المجلة نفسها في أغسطس 2021 تحت عنوان: «العلاقة بين المناطق الخضراء السكنية في دول شمال أمريكا والخصوبة»، وهذه الدراسة الوبائية الفريدة والأولى من نوعها تقدم أدلة على وجود علاقة إيجابية بين السكن في أو بالقرب من مناطق ومساحات خضراء خالية من مصادر تلوث الهواء من السيارات والمصانع وغيرهما وخصوبة وصحة الإنسان بشكلٍ عام. علاوة على الدراسة المنشورة في أكتوبر 2020 تحت عنوان: «التأثير السلبي للتعرض لتلوث الهواء أثناء الحمل على نتائج الولادة»، حيث توصلت إلى نتيجة ملخصها أن العيش في بيئة ملوثة بالدخان، أو الجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد الكبريت لها تداعيات سلبية على الولادة وعلى الطفل المولود. كذلك الدراسة المنشورة في الثالث من مايو 2023 في مجلة «شؤون الصحة البيئة» حول تأثير التعرض لبدائل الملوثات العضوية متعددة الفلور ومتلازمة تكيس المبايض لدى النساء المصابات بالعقم»، حيث أفادت بأن هذه الملوثات العضوية لها علاقة بإصابة المرأة بالعقم.
فهذه الدراسات والأبحاث التي قدَّمتها لكم ما هي إلا غيض من فيض، فهي كثيرة جداً وفي تزايد مطرد مع الوقت، وكلها تؤكد أن العامل البيئي المتمثل في تلوث الهواء والماء والتربة، إضافة إلى العوامل الأخرى كلها تراكمت وتجمعت فأدت مع الوقت إلى تدهور في الخصوبة على المستوى الدولي، ما يحتم علينا الاهتمام بالجانب البيئي ومنع ومعالجة الملوثات قبل السماح لها بالدخول إلى عناصر بيئتنا.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك