إن أي عملية تقييم دقيق للحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا لابد أن تفضي إلى خلاصة مفادها أنه لا توجد نهاية متوقعة لهذا الصراع، في ظل التصعيد الحالي من جانب كل من روسيا وأوكرانيا.
رغم العقوبات فقد نجحت روسيا في إيجاد بدائل وحلول ومصادر تمكنها من تجديد أسلحتها، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على مساعدة حلفائها في نقل شحنات من الأسلحة المتطورة الجديدة إلى أوكرانيا.
لا شك في أن روسيا هي المبادرة بشن هذه الحرب الرهيبة ضد أوكرانيا، وانتهاك القانون الدولي من خلال غزو دولة ذات سيادة، ومهاجمة سكانها المدنيين، وضم أراضيها.
وبما أن القانون الدولي «يحترم في خرقه أكثر مما يحترم بالانصياع إليه»، فإنه لا يمكن لأوكرانيا اللجوء إلى منظمة الأمم المتحدة أو محكمة العدل الدولية. فكلتا المؤسستين، اللتين تم إنشاؤهما على وجه التحديد للتعامل مع هذا النوع من التطورات والنزاعات، أضحتا اليوم مشلولتين بسبب نقص القدرة و / أو الاعتراف أو الدعم من قوة عظمى.
نتيجة لذلك، انقسم دول العالم إلى معسكرات تخندقت فيها: فالولايات المتحدة الأمريكية تقود مجموعة واحدة من الدول الغربية بشكل أساسي تدعم أوكرانيا؛ بينما تتزعم روسيا مجموعة أصغر من المؤيدين. أما الصين فهي ليست في المعسكر الروسي بشكل علني، غير أنها تلعب لعبة «عدم الانحياز» مع البقية.
لم تحقق الجهود المبكرة التي قامت بها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لعزل ومعاقبة روسيا من خلال العقوبات سوى نجاح محدود، حيث اختارت معظم الدول في جنوب الكرة الأرضية البقاء غير منحازة.
تعزى هذه المواقف التي تتخذها بعض الدول إلى قلة أو انعدام الثقة في الولايات المتحدة الأمريكية، بالنظر إلى الغطرسة التي اتسمت بها السياسة الخارجية الأمريكية على مدى العقدين الماضيين. لذلك فإنه لم يعد يُنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية على أنها ذلك الشريك الموثوق به.
وفوق ذلك كله فإن العديد من دول النصف الجنوبي من العالم باتت، بل وأوضحت أنها غير مستعدة للمخاطرة بعلاقاتها التجارية القوية وعلاقاتها الاستثمارية مع كل من روسيا والصين.
بعد غزونا واحتلالنا لكل من أفغانستان والعراق عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، واستهدافنا لليبيا لتغيير نظامها الحاكم، وبعد الغارات التي نفذتها طائراتنا من دون طيار في عدة بلدان عبر آسيا وإفريقيا، فإنه من الصعب اليوم على الدول الأخرى أن تحذو حذو الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها منارة الاستقامة والرأي القويم والسديد.
أما بالنسبة إلى العالم العربي، فإن هذه المعايير المزدوجة مقلقة بشكل خاص. فالغضب من انتهاك روسيا للسيادة والهجمات غير المتناسبة التي تستهدف المدنيين، والنقل القسري للأوكرانيين من أراضيهم، وضم الأراضي له ما يبرره تمامًا.
لكن ادعاء الولايات المتحدة الأمريكية بأنها نبراس للقيادة الأخلاقية في العالم غير مقنع بل إنه ينم عن كثير من النفاق عند كثير من العرب بسبب صمتنا عن مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية السافرة على الفلسطينيين.
أخيرًا، هناك حجة مفادها أنه يجب على الدول أن تتحد معًا لمعارضة سلوك روسيا لأنها تهدد «النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد».
هذا الموقف الأمريكي الفريد يتجنب ذكر القانون أو الاتفاقيات الدولية، التي انتهكتها الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل مرارًا، أو المحكمة الجنائية الدولية، التي لا تعترف بها الولايات المتحدة الأمريكية ولا تحظى إلا بالكلام عندما تخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية. يخفي هذا النداء محاولة أمريكية مخصصة لتطبيق «القواعد» التي تريدها لإنشاء «النظام» الذي تسعى إليه.
نظرًا إلى هذا الانفصال عن الواقع وانعدام الثقة المتزايد بين الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأخرى، فبدلاً من تعبئة العالم ضد العدوان الروسي، فقد دخلنا في حرب باردة جديدة. تعارض بعض الدول قيادتنا في حين أن معظمها يتأرجح في مواقفه بين كلا المعسكرين.
أما الحقيقة المأساوية فهي تتمثل في أنه عندما يحصل أحد الجانبين على أسلحة جديدة، فإن الآخر سيفعل ذلك أيضًا ويحذو حذوه. وعندما يلجأ أحد إلى التصعيد فإن الطرف الآخر سيرد بالمثل أو بأكثر منه. نتيجة لذلك، يمكن أن تستمر هذه الحرب إلى أجل غير مسمى، ما يشكل مخاطر لا توصف على الشعب الأوكراني وإمكانية اندلاع حرب إقليمية أوسع.
حان الوقت للتخلص من براثن الأوهام من «هزيمة مذلة تامة» ورسم خريطة طريق تفضي إلى تسوية هذا الصراع الذي لا يمكن تحقيق الانتصار فيه. بدلاً من صب البنزين على النار، يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع الصين تحت الاختبار من خلال دعوتها إلى الانضمام إلينا في حشد تحالف سلام متعدد الجنسيات جديد لتأمين السيادة والأمن للأوكرانيين والعمل على احتواء التوسع الروسي.
إذا طالبنا بتغيير الموقف والنظرة العامة والخطاب فإننا سنحتاج إلى تقديم حوافز لصنع السلام. وبدلاً من الضغط على الآخرين لدعم ما يعتبرون أنها حربنا لا حربهم، وإجبارهم على عدم الانحياز، فإنه من الأفضل دعوة هذه الدول إلى الانضمام إلى حملة من أجل السلام والأمن والاستثمار والتجارة، والتي يمكن أن تفيد كل أوروبا الشرقية والوسطى.
قد يبدو هذا الأمر غير واقعي، لكنه يمثل بالمقابل مسارا أفضل من المهمة الحمقاء لتسريع هذا الصراع سنوات قادمة، مع توقع غير واقعي بإمكانية تحقيق النصر الكامل وإلحاق الهزيمة النكراء بالطرف الآخر.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك