في الوضع العربي الراهن وما يواجه من قضايا بعضها وصل الى الاقتتال في القُطر الواحد وآخرها السودان التي تشهد اليوم ازمة طاحنة اضرت بالإنسان والمجتمع ككل راح ضحيتها ابرياء من اطفال ونساء، وأودت بمقدرات الدولة وفرصها في الامن والاستقرار. في نفس الوقت هناك بصيص امل لمعالجة قضايا مُلحة أخرى في العلاقات الإقليمية نتيجة حوار بين الاقطاب في المنطقة. في هذه الاجواء أقام مجلس د. محمد الكويتي ندوة تناقش ثقافة الحوار في المجتمعات العربية قدمها الدكتور حسن مدن، وأضافت المداخلات العديدة من الجوانب المهمة والمؤثرة في ثقافة الحوار.
بدأ الدكتور حسن حديثه عن أهمية الحوار في معالجة القضايا وشروط نجاحه. الحوار مهم وضروري لكل مجتمع ولا توجد قضية تستغني عن الحوار وطرح مختلف وجهات النظر والتعبير عن المصالح. لذلك فان بداية الحوار يجب ان تكون الاقرار بالتعددية التي تعبر عن مصالح متعددة وقناعات فكرية مختلفة ومتنوعة والقبول المبدئي بتعدد الآراء، وكذلك وهو الأهم، احترام هذا التعدد والاختلاف. وبالتالي تقتضي شروط الحوار بروز توجهات واجتهادات مختلفة للتعامل مع القضايا. وظيفة الحوار هنا الوصول الى فهم وارضية مشتركة يمكن ان ينطلق منها المتحاورون لطرح الخيارات والمعالجات والحلول. كذلك من شروط الحوار الايمان بنسبية الافكار، الفكرة يمكن ان تحتوي على نسبة عالية من الصحة لكنها ليست حقيقة مطلقة، وأن هناك دائما مجالا للتحسين والتطوير والتقدم بالفكرة في صالح المتحاورين. كما ان الفكرة التي نراها خاطئة قد تحتوي على قدر من الصحة، ولا يوجد من يمتلك الحقيقة المطلقة. ومن شروط الحوار أيضا ان يكون الدخول في الحوار طواعية نابعا عن إيمان بجدوى الحوار واهميته لعلاج الخلافات ومنع التوترات وتطورها الى مالا يحمد عقباه. أي ان الحوار يفترض اعترافا مسبقاً بوجود الآخر وبأهليته لأن يكون متحاورا وشريكا بشأن حل موضوع الإشكال المشترك بينهما.
هناك محاولات في المدارس لطرح الحوار كمسألة تربوية تتعلق بآداب الحوار مثل عدم رفع الصوت على من هو أكبر او خفض نبرة الصوت والهدوء في الحوار. هذا توجه جيد لتأسيس الناشئة على مفاهيم آداب الحوار، لكنها تختلف عن مفهوم الحوار الذي نحن بصدده. المطلوب تكريس أسس الحوار ليكون آلية لحل الخلافات وتأكيد الحاجة إلى الاستماع وتقبل تعدد الآراء والمصالح واحترامها والاستفادة من الجوانب الإيجابية فيها وما يدعو إلى قبول التنازلات التي توصل الى الارضية المشتركة. لا أحد يقول إنه ضد الحوار، الكل يتغنى بجدوى وأهمية الحوار لكن العبرة في القبول به وبنتائجه كمبدأ لمعالجة القضايا ورفض العنف النافي للآخر.
لتيسير التوصل الى مشتركات لا بد ان يكون للحوار هدف لمعالجة معضلة محددة ورغبة في الوصول الى حل، وان يشترك اصحاب الشأن فيه طواعية بمختلف رؤاهم ومصالحهم. وألا يتحول الحوار الى محاولة التغلب وفرض رؤية معينة من قبل الطرف الأقوى، واغفال مصلحة الطرف الاضعف، فهذا سيكون بداية لمشكلة أخرى تبرز في المستقبل. فمثلا حدث حوار بين أطراف الصراع في السودان احتضنته السعودية، لكن هل الطرفان جادان في الحوار أم إنها فرصة لكسب الوقت. للأسف هذا النوع من الحروب والصراعات لا تفضي عن طرف منتصر وان كان، فهو مؤقت ينفجر في وقت لاحق.
الحوار الجاد هو الذي ينطلق من الشعور المشترك لدى كافة الاطراف بالرغبة في الوصول الى نتيجة وحل قائم على تنازلات متبادلة بما يراعي المصلحة العامة المشتركة. ما يفسد الحوار هو الشعور بالقدرة على تمرير قناعة وموقف معين بسبب اختلال في موازين القوى. مثل هذا الاتفاق عادة ما يكون بداية الانطلاق لجولة أخرى من الخلاف والعنف. فمثلا ما حدث في نهاية الحرب العالمية الاولى من اتفاق سلام زرع بذور الحرب العالمية الثانية، كذلك كثير من الامثلة في الدول العربية مازالت صراعاتها مشتعلة بالرغم من الدخول في عدد من الحوارات.
الحوار المفضي الى نتائج لا بد ان يأخذ في الاعتبار وجود التعدد والتنوع في المجتمع وفهم تأثيره على الحل. هناك فرق بين التعدد والتنوع، فالتنوع يوجد ضمن التعدد. فمثلا كثير من المجتمعات العربية مكونة من اديان او مذاهب مختلفة، وداخل كل مذهب هناك تنوع فقهي وعقائدي. كذلك يوجد في كل مجتمع تنوع اجتماعي، هناك محدودو الدخل وهناك الاغنياء والطبقة المتوسطة، وهذه الفئات تشترك في المصالح والمواقف من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالرغم من اختلاف انتمائها الديني او الفكري. ونرى في كل مجتمع كيف ان القضايا الاقتصادية والمعيشية تجمع الناس من مختلف الانتماءات الفرعية. فالمصالح الطبقية والمصالح المعيشية تجمع وتوحد بين فئات المجتمع. لا ينحصر هذا في الاديان بل ينسحب على الايديولوجيات السياسية والنظريات الاقتصادية والاجتماعية. بالإضافة الى الحوار في القضايا المصلحية هناك كذلك الحوار الفكري أو المحاججة الفكرية والبحث عن البراهين لترجيح عمل او فكرة معينة، وهذا كان رائجا في المجتمعات القديمة اليونانية.
هذا يقودنا الى ما يجري الحديث عنه الآن من حوار بين الثقافات والأديان. الحوار بين الاديان مهم وخصوصا في المجتمعات التي شهدت حروبا أهلية مثل لبنان والعراق والسودان. لم تكن الحرب طائفية بين اديان وانما صراعات على مصالح ومحاور اقليمية مختلفة، ومع ذلك هذا لا يقلل من الحاجة الى الحوار بين الاديان. احترام الديانات المختلفة يجب ان يكون وفق مبدأ لكم دينكم ولي دين. ووفق هذه القاعدة يكون التعايش بين الاديان حتى وان كانت هناك غالبية لديانة معينة. اي ان نقبل اختلاف الاديان وحق كل دين بممارسة طقوسه وعبادته. فمثلا سيدة فلسطينية مسيحية ضمن الذين هاجروا الى سوريا في 1948، عاشت في مخيم غالبيته مسلمون، تقول هذه السيدة ان امها كانت تمنعهم من اخذ اكل الى المدرسة في رمضان احتراما لمشاعر الغالبية من الطلبة المسلمين. هذا النوع من الاحترام هو الذي يولد التقارب والتعايش الحقيقي بين الناس على قاعدة إنسانية ومواطنة متساوية. وكذلك ينبغي أن يكون الحوار بين القوميات المختلفة ضمن البلد الواحد. فانقسام السودان كان على خلفية دينية، مسيحية في الجنوب ومسلمة في الشمال. فالاحترام والمساواة في الحقوق والواجبات مهم لتحقيق التعايش والتقارب. السؤال هل غياب الحوار خاص بالمجتمعات العربية، ولماذا إن كان كذلك؟
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك