بقلم: عاطف الصبيحي
إنباء آدم الملائكة بالأسماء جاء بعد التعليم، كما ذكرنا في المقال السابق، ما يستلزم اعتبار العلم لازمة من لوازم الاستخلاف، والاستخلاف شرطه اللازم الحرية القائمة على العلم، والعلم والأخلاق ثمرة لنفخ الروح، أو قل نفخة الروح هي العلم والأخلاق حصراً، (قال إني جاعل في الأرض خليفة) والفعل «جعل» هو تغيير في الصيرورة المؤهلة للاستخلاف، وقد كان.
الحرية من أعلى القيم وأهمها في كتاب الله، وكل المتون الصادرة عن قراءة كتاب الله فهمت الحرية أو تم التعاطي معها على ضوء ذلك الفهم، مع ما خالج ذلك من دخن وغلبة الأهواء عبر الحقب التاريخية، لكن نظرة إلى النبع الصافي، إلى الفهم النبوي للقرآن تكفي لبعث الطمأنينة في النفس لمفهوم الحرية، فنظرة فاحصة لصحيفة المدينة كوثيقة أولى مُنظمة لدولة فتية، تجدها قائمة ومرتكزة على مفهوم الحرية، وهو ما جعل الدولة الناشئة تؤسس لمجتمع مدني متعايش بين قاطنيه، وتعد تلك الوثيقة مرجعية غير منتهية الصالحية حتى يومنا هذا وما بعد يومنا، فهي صادرة من فهم نبوي لنصوص القرآن الكريم التي عالجت الحرية، مع أن لفظ الحرية لم يأت عليه القرآن،
ودرجت الحياة في دولة المدينة الفتية في حركتها بكل ألوان الطيف فيها، حتى حجة الوداع أو ما يُسمى بخطبة الجبل، نجدها خطبة دستورية بامتياز، متكاملة مع الصحيفة، وأول ما يسترعي الانتباه في خطبة الجبل هو صيغة الخطاب النبوي «يا أيها الناس».
من خطبة الوداع يمكن صياغة بنود دستورية بالمفهوم العصري، فقوله عليه السلام: «كلكم لآدم وآدم من تراب» تأكيد للمواطنة بين القاطنين بلا استثناء، وهي مواطنة متكافئة لا تفاضل فيها ولا تمايز، وقوله عليه أزكى السلام: «إن مآثر الجاهلية موضوعة» لإفراغ النفوس من العودة إلى أُسس التعامل الجاهلي على أساس اللون أو العرق.
«إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد». توكيد صارم جازم على حرمة النفس والأموال، ولا يخلو دستور من دساتير الدول الحديثة من هذه البنود الزواجر، وقوله عليه السلام: «فمن كانت له أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع وإن مآثر الجاهلية موضوعة» بنود دستورية رصينة تحفظ الحقوق، وتفعيلها يسد الثغرات على التدابر والتناحر من أن يستشري بالمجتمع، ولم ينس المرأة من خطبته الأخيرة تلك، فقد حظيت بحيز لا يستهان به.
ولافت للانتباه الحرص الشديد على التلاحم والوحدة الوطنية وسلامة المجتمع، وذلك من خلال تأكيده صلى الله عليه وسلم على الأخوة بقوله: «أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، فلا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...» واليوم الدول تنص على هذا بدساتيرها، وماكينة الإعلام لا تني عن الحث على تماسك المجتمع، ونبذ عوامل الفرقة والاختلاف، التي مآلها الحتمي ذهاب الريح، والهوان والذلة.
خطبة الوداع كفلت الحد الأدنى للتعايش الدستوري بين الناس، على اختلاف المعتقدات وتباين القوميات، وكل ذلك ترجمة عميقة لدلالات الكتاب الكريم، كيف لا وهو النبي المتلقي تعاليم ربه والجدير بفهمها، وإنزالها سلوكاً معاشاً كي ينعم الناس في ظل تعاليم علوية المصدر، فسورة الممتحنة ضبطت بشكل لا يقبل التأويل الأساس المتين للتعامل مع الآخر المختلف عنا، ضبطاً حاسماً، ففي الآيتين الثامنة والتاسعة من الممتحنة يقول الله تبارك وتعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الشروط واضحة ومحددة بثلاثة: لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، ولم يظاهروا على إخراجكم، وما عدا ذلك فلهم البر والقسط.
بتلك الأسس العامة والمبادئ الكلية للحريات ختم رسول الله حياته، وقد أدى ما عليه، وترك التفاصيل مفتوحة للأجيال المتعاقبة ليمارسوا الحرية وما يتعلق بها من اختيار نظام الحكم، وصيانة الحقوق، واحترام حق الفرد في الاختيار الحر لكل جوانب حياته على ضوء تلك المبادئ العامة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك