بقلم: عاطف الصبيحي
كلمة شيخ العربية وحامي حماها تليق بهذا الجهبذ الإسكندراني، الذي أفنى عمره ينافح عن العربية بأشد ما يكون الدفاع، المؤمن بما يقول، الثابت على ما يقول، الراسخ في دفاعه حيناً طويلاً من الدهر، خاض خلاله من المعارك الأدبية ذوداً عن اللغة والتراث ما خاض، وبقي سيفه مشهراً في وجه كل متجنٍ على العربية، متحذلق متقعر في هجومه، لا يداري ولا يوارب، فالقضية أجل وأسمى من أن يُوارب فيها، أو يحابي، فكان الصخرة التي تحطمت عليها الدعاوى الباطلة، والسد المنيع حقاً على كل متسلل أو مدع زوراً وظلماً على العربية، العربية الربانية، العربية القرآنية، وغادر وهو مهاب الجانب في هذا المجال، غادر الدنيا موشحاً بوسام شيخ العربية وحامي لوائها، وكفى به من وسام كريم وفخر.
أولى معاركه الشرفية النبيلة كانت مع أستاذه في الجامعة طه حسين، والذي توسط له لقبوله في كلية الآداب لأنه كان خريج القسم العلمي من الثانوية العامة، ولم ترتعد فرائصه للصيت الذي أُضفي على طه حسين حينها، فهو مثقف أصيل منذ صباه، حتى أنه حفظ ديوان المتنبي صغيراً، وهذا ليس بغريب ولا مستهجن على سليل عائلة من أشراف العوائل الإسكندرانية المرموقة في نسبها، ذات القدم الراسخة في العلوم والتعاليم الإسلامية، وكأني به قد رضع المبادئ في مهده.
فعلى مقاعد الدراسة الجامعية وفي بواكيرها، بينما كان أستاذه، وصاحب اليد عنده في قبوله في كلية الآداب يحاضر عن كتابة الموسوم «في الشعر الجاهلي» صُدم الطالب بفكرة كانت عصية على المرور والتي مفادها: إنّ الشعر الجاهلي هو من تأليف المسلمين ليفسروا به القرآن، ولأنه طالب متميز باطلاعه قبل الجلوس على المقعد الجامعي فقد دُهش لأنه كان قد قرأ هذه الشُبهة في مقال للمستشرق «مركليوث»، فأسر في نفسه بدايةً أنّ أستاذه سارق، مارق على الأمانة العلمية، لكن ما أُحيط بالمحاضر- طه حسين- من هيبة وصيت أدبي أوجس بنفس الطالب خيفة، وأسرها بين جوانحه حتى عجز عن كبتها فكانت المواجهة حتمية مع فراغ الصبر. ما اضطره إلى ترك الجامعة ويمم وجهه صوب العربية السعودية، لا يسعنا سرد تفاصيل معاركه النبيلة مع خصوم هم براء من النُبل والمروءة الثقافية بسبب ضيق الحيز المتاح في هذا المربع المخصص للمقال، وليتيسر لنا عرض جوانب أُخرى من حياة هذا اللغوي الثائر.
أبو فهر متذوق للشعر ويقرضه، وكانت صفحات مجلة الفتح والزهراء مكانا ليرى شعره النور، إلى جانب التوغل في الاطلاع والقراءة، وتزامن مع سياحة القراءة، مد جسور العلائق مع نخبة عصره الأدبية والثقافية، وبالخصوص الرافعي، والتي تمظهرت العلاقة بينهما كطالب وأستاذه، ثم سمت وارتقت لعلاقة صداقة.
مما يُحسب له أنه يقرأ ويهضم، وحين يكتب يُضفي بصمته الخاص على موضوع الكتابة، فله يعود الفضل في تصحيح بعض ما شاع عن المتنبي من جهة نسبه، فصرامة التحقيق التي كانت ديدنه أدت به إلى نفي أن المتنبي كان ابن أحد السقايين، وأنه كان علويا من أُسرة علوية كوفية، وبهذا وبسبب التحقيق والتدقيق خالف من سبقه، كيف لا وهو قد كتب كتاباً عن المتنبي في الوقت الذي طُلب منه كتابة ورقة لا تتعدى بعض صفحات عن المتنبي لصالح مجلة المقتطف التي كان يرأس تحريرها فؤاد صروف، فقدم له كتاباً متكاملاً محققاً تحقيقاً علمياً صارماً ، فنقله هذا الكتاب من غياهب المغمورين إلى مصاف المؤلفين اللامعين، وهو بذلك جدير، لما في الكتاب من تفرد في العرض والطرح.
الحر فكرياً، الأمين خُلقاً، المنتمي إلى الحقيقة، لا بد وأن يضيق ذرعاً بالترهات والتي تُسمى بهتاناً بالمعارف، فلا مناص له ولا خيار من استئناف المعارك، وهذه المرة مع لويس عوض المستشار الثقافي للأهرام، تلك المؤسسة العريقة، والتي كتب فيها سلسلة مقالات يدعي فيها تأثر المعري بالمعرفة اليونانية، كما أنه ادعى تأثر الأحاديث النبوية بالأساطير اليونانية، فأنى لأبي فهر أن يقف مكتوف الأيدي على ما يراه من افتراء وافتئات، مما أدى تصديه لهذا الهراء إلى اعتقاله.
غادرنا سيف العربية في عام 1997، تاركاً لنا إرثا تجملت به المكتبة العربية وازدانت، منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب «أباطيل وأسمار» و«القوس والعذراء» و«المتنبي» رحمك الله يا حامي حمى العربية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك