بقلم: عاطف الصبيحي
في اللمسات الأخيرة من صياغة ميثاق الحديبية، بينما سهيل بن عمرو ينتشي بإملاء شروطه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطل عليهم ابنه أبو جندل وصدره عامر بالإيمان، والعقيدة الراسخة تفيض من جوانحه، يطل عليهم وهو يرسف بالحديد ومثقل بالقيود، جاء مسلماً مؤمناً، يريد اللحاق بالركب المسلم، ركب يتململ من شروط الحديبية ولعل ابن الخطاب كان الناطق الرسمي أو الممثل الأبرز عن الرفض، ومما زاد الطين بله قدوم هذا الثائر طالباً الحماية، بينما أبوه أتم التفاوض ووافق النبي الكريم على الوثيقة، فرده رداً جميلاً، وبرزت وحشية والده وهو يقسو عليه ضرباً وجراً وأبو جندل يصرخ بأعلى صوت «يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟» فاغتم الناس على ما بهم من هم وضيق.
ولم يملك الرسول الكريم إلا بث الطمأنينة في نفس ثائر صنديد فقال له: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم. فعاد بجسده دون روحه وعقله.
رجع مع أبيه على كره منه، ونفسه كالمرجل تفور ثورة، وتوقاً للحق وللحرية، وأنى لمن خالطت نفسه نسمات العقيدة أن تلين نفسه وتخشع للواقع وتستكين، وتزامن ذلك مع ثائر آخر أشد حزماً من «أبو جندل»، حيث جاء أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً، بُعيد الحديبية، فألحقت به قريش من يحضره، مطمئنين لذمة محمد عليه السلام في حفظ العهود والوفاء بها، وقال أبو بصير للرسول الكريم ما قاله أبو جندل، ورده مع الرجلين، وفي الطريق قتل أحدهم وفر الآخر ليخبر قريش، ورجع إلى رسول الله عليه السلام متوشحا سيفه قائلاً: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وامتنعت بديني أن أفتن فيه أو يُعبث بي، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ويل أمه مُسعر حرب لو كان معه رجال.
وهنا تتلاقى أرواح الثوار، وتتجلى قوة العقيدة فيهم، فما أن سمع أبو جندل بما قاله الرسول الكريم لأبي بصير من أنه مُسعر حرب لو كان معه رجال، حتى وجد ضالته فيه ومعه، أخذ أبو بصير على عاتقه قطع الشريان الاقتصادي القرشي المار بمحاذاة الساحل، وقويت شوكته على هذا الفعل، حين لحق به سبعون من مستضعفي مكة وعلى رأسهم الثائر أبو جندل بن سهيل بن عمرو.
اتخذ الثوار من الساحل أرضية للحركة وضرب قريش قتلاً لرجالها أو نهباً لقوافلها، وكلا الأمرين ضرب في الصميم، فلا قريش لها سلطان عليهم، ولا هم في أرض الدولة الإسلامية، أدركت قريش القوى الكامنة في نفوس هؤلاء من إيمان راسخ، يرافقه نقمة على قريش فهي تعلم ما قدمت يداها من بشاعة معاملتها لهم حين كانوا تحت يدها، فصرخت تستنجد بمحمد عليه السلام وتناشده الرحم أن يؤوي إليه هؤلاء القوم.
ثورة أبو بصير وأبو جندل ومن معهم أجبرت قريش على التنازل عن الشرط الذي أملته قريش تعنتاً، وعلى مضض قبله المسلمون، بعزم العقيدة هدم الثوار ركنا من أركان وثيقة الصلح، وكان هذا أول تباشير النصر من وراء الحديبية الذي رأى فيه جمهرة المسلمين حينها مهانة، ومقالة عمر الفاروق لأبي بكر ومن ثم للرسول الكريم تدل على مدى الغضب من تلك الشروط فقال لهم: أولسنا بالمسلمين؟ أليسوا بالمشركين؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!
حين تستقبل العقيدة نفوسا شماء، وتتغلغل في قلوب حرة أبية تصنع رجالا، الرجل فيهم بألف رجل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك