بقلم دكتور غريب جمعة
صبره على قضاء الله ورضاه به:
أما عن صبر شيخنا ورضاه بقضاء الله وقدره فقد كان له القدح المعلى في ذلك، فما رأيته في يوم من الأيام متسخطا ولا متبرما.. أقصى ما يقوله: الحمد لله – نصبر ونحتسب.
وكأن لسان الحال يردد ما قاله الفقيه الشافعي الأديب الشاعر قاضي القضاة علي بن عبدالعزيز الجرجاني وهو: فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي أضيق به ذرعا فعندي له الصبر.
وقول أبي إسحاق الغزي: إذا تضايق الأمر فانتظر فرجا فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج.
وإليك هذا المثل: لقد أصيب شقيق له بمرض شديد ورافقته في رحلته مع أخيه لالتماس العلاج عند الأطباء وفي إحدى الزيارات حدد الطبيب المعالج موعد الزيارة الأخرى بعد فترة من تعاطي العلاج الموصوف لمتابعة الحالة، وذهبت إلى فضيلته في الموعد المحدد بمصر الجديدة ثم انتقلنا إلى شبرا، حيث يقيم أخوه مع والده وقبل أن نصل إلى المنزل بقليل طلبت أن يسبقني حتى يستعد أخوه للذهاب إلى الطبيب، فقال بأسى لقد انتقل إلى جوار ربه بالأمس ولم أخبرك حتى لا أزعجك وكفاك ما قمت به خلال رحلة علاجه وأنا أعرف أنك إذا علمت بهذا الخبر ستقوم بعزاء الوالد في شبرا ولذلك جئت معك إلى هنا حتى لا نشق عليك بمجيئك من الجيزة إلى مصر الجديدة ثم من مصر الجديدة إلى شبرا!!
مكافأته على المعروف ورده التحية بأحسن منها:
أذكر أنني في إحدى الزيارات حملت بعض الهدايا الصغيرة التي يحبها الأطفال إلى أطفاله الثلاثة: محمد الذي أصبح مهندسا إنشائيا وأحمد الذي يحمل رتبة لواء ويعمل مدرسا بالكلية الفنية العسكرية وإيمان التي أصبحت طبيبة بشرية أما الدكتورة نهى طبيبة الأسنان فكانت في رحم الغيب.
ولما ذهبت إلى زيارته بعد تلك الزيارة فوجئت بالأطفال الثلاثة يحملون هدايا يفوق ثمنها أضعاف ما دفعت ثمنا لهداياهم الصغيرة ثم قالوا ببراءة الأطفال الملائكية وصوت الطفولة العذب الحبيب: لو سمحت يا عمي تفضل هذه الهدايا منا ونرجو أن تقبلها فشكرتهم ووالدهم على هذا الشعور النبيل.
ذكاؤه وحياؤه:
كان على درجة كبيرة من الذكاء ويستطيع أن يداري فيبسط وجهاً رحباً ولساناً بالحديث رطبا وليس في استطاعته أن يداهن فيقول للمسيء أحسنت وللمخطئ أصبت وللمفسد أصلحت ولا ينسى الناس كلمته التي ألقاها في حضور الرئيس السابق حسني مبارك حينما زار الأزهر وتعرضه للحرب العراقية الإيرانية ووصفه لها بالحرب «الحمقاء» وساق الأدلة على ذلك في جرأة عجيبة وذلك عندما كان أمينا عام لمجمع البحوث الإسلامية.
أما إذا منعه حياؤه من أن يصارح جليسه بالخطأ في علم أو رأي فإنه يسلك طريقة دقيقة بعيدة عن المعارضة ولكن ليس من شأنها أن تجر إلى مناقشة وهكذا تصل رسالته إلى جليسه وكأنها قطعة حلوى وليست علقما يتجرعه ولا يكاد يسيغه وذلك من توفيق الله تبارك وتعالى له.
لماذا أقول أستاذي وشيخي؟
حينما أقول عن فضيلته أستاذي وشيخي فليس ذلك من فضول القول ولا من التطفيف في كيل المديح والثناء بغير حق وإنما أقوله لأنني وجدت فيه توجيه الأستاذ وود المحب ونصح الأمين ومتابعة الحريص، حينما كتبت بحثا بعنوان «كلمات وكتابات العلامة ابن الجوزي من روائع أدب التربية والمواعظ» وكان هذا الميدان جديدا علي فأخذ بيدي وأرشدني إلى خطة البحث وإلى المراجع ثم راجع البحث بعد كتابته حتى استوى على سوقه، وقد شاركت بهذا البحث في الندوة العالمية الأولى للأدب الإسلامي المنعقدة في جامعة ندوة العلماء بمدينة لكهنؤ بالهند عام 1409ه / 1981م برئاسة سماحة الشيخ الجليل أبى الحسن الندوي وهو في غنى عن التعريف - يرحمه الله -.
ثم كانت المساعدة الثانية حينما كنت أكتب سلسلة من المقالات عن الشيوعية ثم أشار علي بجمعها في كتاب ففعلت وصدر الكتاب بعنوان «انحطاط الفكر المادي» وكتب له مقدمة رائعة -يرحمه الله- أما المساعدة الكبرى فكانت في كتابي بعنوان «قبس من إعجاز القرآن»، حيث راجعه مراجعة دقيقة وكتب له مقدمة أيضا وشاركه في ذلك العالم الفاضل الأستاذ الدكتور أمين باشا أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعتي الأزهر وأم القرى جزاهما الله خيراً عن الكتاب وصاحب الكتاب.
آثاره العلمية:
1/ الأخلاق والتصوف.
2/ العقيدة وبناء الإنسان.
3/ أخلاقيات العلم وأزمة الحضارة الحديثة.
4/ تحقيق كتاب آداب المريدين للحكيم الترمذي.
5/ تعليقات على العقيدة السنوسية الكبرى.
هذا بخلاف الكتب والرسائل والمقالات بالمجلات الإسلامية التي لم تقع تحت أيدينا مع الأسف.
وبعد هذه الحياة المباركة الحافلة بالعلم والعطاء وخدمة الإسلام والمسلمين والمسارعة إلى الخيرات والطاعات استأثرت به رحمة الله فجر يوم الأربعاء 20 من ذي القعدة 1442هـ الموافق 30 من يونيو 2021م.
ورجعت النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية وهو يردد قوله تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( 27) يس.
وبعد..
فهذه كلمة وفاء لشيخي وأستاذي فضيلة الأستاذ الدكتور عبدالفتاح بركة وهى غيض من فيض ووشل من بحر مما وعته الذاكرة على مدى نصف قرن من الزمان.. إي وربي إنها غيض من فيض ووشل من بحر وما بلغت معشار ما يستحقه ذلك العالم الجليل، ولكنى أرجو أن أكون قد نجحت في تقديم صورة من كماله الذي حباه الله تعالى به، رفع الله درجته في عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
بعض ما جاء في خطابه (بعد الدباجة):
عندما وصل خطابكم كنت على وشك الكتابة إليك من شدة قلقي، حيث حاولت الاتصال بكم في القاهرة وكلفت أولادي كذلك بالاتصال بكم في القاهرة لأنه لم يصلن منكم رد من السعودية، ولما لم أجد إجابة من القاهرة ولا من السعودية شعرت بقلق شديد حتى وصلني خطابكم فأصبحت أكثر رغبة في الكتابة وأكثر عزوفا عنها فالظرف صعب يقتضي الكتابة وشعوري بصعوبة الموقف يجعلني غير مقبل عليها، ثم يستمر رحمه الله إلى أن يقول: هذا وأخوكم في سعة من فضل الله ويمكن أن تحددوا لي وسيلة لإرسال ما ترونه مناسبا من المال حتى تزول هذه الأزمة العابرة بإذن الله تعالى، وأرجو أن تكونوا وأسرتكم بخير وصحة وعافية وأنا في انتظار إشارتكم وفي انتظار أن نطمئن عليكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبدالفتاح عبدالله بركة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك