بقلم: د. أحمد علي سليمان
نظَّم الله -سبحانه وتعالى- الحياةَ على أسس سليمة، فأوجب علينا أمورا، وحرَّم أخرى، وأباح أشياء؛ من أجل أن تسير الحياة سيرا سليما على أسس ربانية، وبما يضمن صيرورتها إلى الحق والعدل والرحمة... وإلى كل ما يرضي الله ويحقق للإنسان السعادتين في الدنيا والآخرة.
لذلك حرَّم الله ُ-عز وجل- السرقة والربا والغش والنصب واكتناز الأموال وكل ما يضر الإنسان أو يعرقل سير الحياة على نحو سليم، ومن ذلك تحريمه الاحتكار.
ومادة «حكر» في اللغة العربية تعني احتكار الطعام -وغيره- أي جمعه وحبسه؛ يُتَرَبَّص به الغلاء، وقيل: جَمعُ الطَّعامِ ونَحْوِه واحتِباسُه، بهدف التحكم في السلعة ورفع سعرها. والاحتكار في الاصطلاح: هو أن يَشتَريَ الشخصُ السِّلعةَ للتِّجارةِ الَّتي يَحتاجُ إلَيها النَّاسُ، ولا يَبيعُها في الحالِ، بَل يَحبِسُها مَعَ حاجةِ النَّاسِ إلَيها؛ ليَغلوَ ثَمنُها (مغني المحتاج للشربيني (2/38. وقيل: هو إمساكُ السِّلعةِ ومَنعُها مِن الأسواقِ وادِّخارُها حتَّى يَزيدَ عليها الطَّلبُ والحاجةُ إليها، وحينئذٍ يَبِيعُها بأضعافِ ما كانتْ عليه وقْتَ شِرائِها؛ ولهذا فإنَّ الاحتكارَ لا يكونُ إلَّا فيما يَضُرُّ بالنَّاسِ حَبْسُه، وأمَّا مُجرَّدُ ادِّخارِ الطَّعامِ للنَّفْسِ والعيالِ، أو شِراؤهُ لِيَبيعَه في وَقتِه، فليْس هو بالاحتكارِ المذمومِ. (موسوعة الأخلاق -الدرر السنية).
والاحتكار يتسبب في تجميد المال والسلع، ويمثل نوعًا من أسوأ أنواع الاستغلال، ويشتد نكير الشارع الحكيم للاحتكار إذا كان الشيء المحتكَر من السلع الضرورية لحياة الناس كالماء والغذاء والكساء والغطاء والدواء والمستلزمات الطبية وأدوات التعقيم والعلاج...إلخ. والاحتكار في الأوقات العادية حرام، بيد أنه في أوقات الأزمات والأوبئة والجوائح يكون أشد حرمة وجرمًا وظلمًا... وقد اتفقت آراء المذاهب الفقهية على أنه يَحْرُمُ احتِكارُ قُوتِ النَّاسِ، ذلك أن الاحتكار نوع من الظلم، وقد أكد النبي العظيم (عليه الصلاة والسلام) على خطورة الاحتكار، وعلى مصير المحتكِر، فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ» (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه).
وعن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «المحتكِرُ ملعونٌ» (أخرجه الإمام السيوطي في الجامع الصغير).
وعن معمر بن عبدالله بن نضلة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يَحْتَكِرُ إلَّا خاطِئٌ» (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه).
وبون شاسع بين كلمتي: (الخاطئُ، والمخطِئُ)؛ فالخاطئُ: مَن تَعمَّدَ ما لا يَنْبغي. والمخطِئُ: مَن أرادَ الصَّوابَ فصارَ إلى غيرِه. وخاطئٌ (أي: عاصٍ)، والمَعصيةُ مُحَرَّمةٌ، فيَكونُ الِاحتِكارُ مُحَرَّمًا، والمدقق في الحديث النبوي الشريف يجد أنه قد أطلق تحريمَ الاحتكارِ في أيِّ شَيءٍ ولم يقيِّدْ، ومن ثم فإنَّ أي احتكار يخص الناس فهو داخل في الحديث.
ولعل الحكمة من تحريمِ الاحتِكارِ هو دَفْعُ الضَّرَرِ عن عامَّةِ النَّاسِ... وهكذا ينهي الإسلام عن احتِكارِ الطَّعامِ والشراب والدواء والكساء ونحوِه مِمَّا يَحتاجُه النَّاسُ عموما، وفي وقتِ الشِّدَّةِ على وجه الخصوص.
إن المحتكِر الذي يحتكر السلع والأغذية والأدوية والمستلزمات الطبية وغيرها، يقوم بعدة جرائم مركبة في حق العباد والبلاد والدين، في آن واحد، من بينها:
- أن الاحتكار يتعلَّقُ بالسِّلعِ وهي حَقُّ العامَّةِ، وفي الامتناع عنِ البَيعِ إبطالُ لحَقِّهم وتضييقُ الأمرِ عليهم.
- حصولُ الضَّرَرِ -باحتِكارِ ما يَضُرُّ بالعامَّةِ- والقواعد الفقهية تنص على أن الضرر يزال.
- تعطيش السوق، بإخفاء السلع عن الناس؛ حتى يشتاق إليها الناس بأي سعر.
- التضييق على الناس في أرزاقهم، ورفع الأسعار عليهم.
- إرهاق الناس في البحث عن السلع؛ مما يجعلهم يريدونها ولو بأي سعر!!.
- إظهار بعضها فجأة بعد اشتداد الحاجة إليها، وكثرة الطلب عليها؛ ليُظهِر نفسه كأنه المنقذ للناس على خلاف الحقيقة!.
- تسعير السلع كما يريد؛ ليحقق مزيدًا من الربح الحرام.
- مخالفة تعاليم الدين الحنيف بشكل صريح.
وبالجملة فإن المحتكِر معدوم الإنسانية، منزوع الرحمة، كذَّاب، غشَّاش، مُستغِل، مُضيّع لأوقات الناس، وجهدهم، وأموالهم، لئيم، خسيس، ملعون في الدنيا، وأمام الأشهاد يوم القيامة... احتكاره حرام.. واستغلاله حرام.. وكسبه حرام.. وتضخم ثروته من الحرام والعياذ بالله.. وللحديث بقية.
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - مصر
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك