«السيد والعبد» عرض مسرحي من إخراج الفنان الأستاذ خالد الرويعي، وإنتاج فرقة مسرح الصواري البحرينية، النص مستلهم من القصص الأكدية في حضارة ما بين النهرين، يطرح هذا العرض أسئلة إنسانية كبرى برؤية إخراجية تجريبية مغايرة، باعتماده أولا على المسرح الحلقي بقرب المتلقين، إذ تكاثفت فيه القضايا القلقة التي رافقت الإنسان منذ بداياته، انطلاقا من الامتزاج الطبيعي أو الفطري مع الآخر كونه نظيرا في الخلق، ثم جهله بنفسه، وبمحيطه أيضا كما هي نظرية جون ديوي المعرفية، ثم تدرج في تعرف من حوله ومحيطه ومن ثم الاشتباك والتأثير المتبادل، فهذا الكائن قد أوجده الخالق، ثم التأم بحوائه، وقد تخولقت البشرية من رحم الإنسانية بعد ذلك، وتواشجت في تطوافه التاريخي والاجتماعي بمجموعة من العلاقات، بدءا بمرحلة الميلاد المستبشرة الفرِحة من بكاء طفل حديث الولادة، فنما وكبر، ومن ثم بحث عن خالقه، ووجده بدلائله، ومن هنا انطلقت الموسيقى الصوفية والتواشيح الدينية، وبعدها تتناسج العلاقات مع الذات، وصراعاتها، ومع الآخر وانصهاره في وشائجه التي فطر عليها، بعد أن كان جزءا لا يتجزأ من نسيجه البشري، حتى تفككت تلك العلاقات المضطربة بين الإنسان وأخيه، فأنتجت سادة وعبيدا، ثم تباينت علاقة الإنسان بمجتمعه وتعقدت، وأنتجت الفوارق الطبقية، ما أدى إلى إشكالاتها مع مفهوم السلطة وعلاقتها بالمركز والهامش، وكيفية التعاطي مع الجماهير، ثم العلاقة مع الآخر المختلف، وكيف يمكن التعايش معه، حتى ينتهي العرض بالانفصال والانفكاك التام والعزلة عن الآخر مع تشكل الثقافات المختلفة وتلونها، ما أدى إلى صعوبة التلاقي مرة أخرى بعد أن تقطعت الأواصر، وتهدمت الجسور الحضارية التي شيدت من أجل الالتقاء الحضاري والثقافي.
طرح العرض أسئلة وجودية حقا من خلال صراع ثنائي يتجسد ظاهريا في العلاقة بين العبد والسيد، إلا أن الصراع يذهب أبعد من مفهوم العلاقة بين الاثنين، حيث العلاقة واضحة عبر العصور، فالسيد يتحكم في عبده، وربما يتمرد العبد للخلاص من تلك السلطة، إلا أن العرض يطرح أسئلة عن حقيقة العلاقة لا مفهومها، ويطرح أسئلة عن صراع الإرادات، لا الأفعال والسلوكيات فحسب، حيث يتماهى العبد مع رغبات سيده آنا، بل ويبررها، ويكون مطواعا بين يديه، ثم يستنكف السيد ويتراجع عن رغباته، فيجد الماكينة الإعلامية جاهزة لتفنيد تلك الرغبات، إذ يعاود الكرة في قبول أوامر سيده، وهكذا تبقى العلاقة مضطربة ومختنقة إلى حد لا يمكن حلها أبدا على الرغم من تفاوت القوى، وذلك لوجود أنماط إرادات مختلفة ومواربة تقوم على التماهي والتباين والافتراق بين حقيقتين متنافرتين لا جاذبتين.
يطرح العرض إشكالية السيد باعتباره مركزا سلطويا، فهو الآمر والناهي، ومن له حق التفكير والتصرف، بينما العبد باعتباره الهامش المنفذ لأوامر السيد والمطيع والمبرر، وهنا يكمن جمال الحدث الدرامي بين شخصيتين منشطرتين عموديا تفتقدان الندية الواقعية، وتشتركان في القلق المتسع، ولكن المخرج استطاع كسر ذلك بالزي الموحد لكلا السيد والعبد، لأنهما من سنخ واحد، إلا أن تتقطع بينهما الأواصر، وتنأى بكليهما السبل.
كان العرض مدهشا ابتداءً بالحركات الأدائية والجمل التعبيرية المتقنة التي أداها الممثلان المبدعان، وقد جسدت التلاحم الطبيعي والفطري في بداية العرض، ثم تجسيد الصراعات الإنسانية الحادة، وقد استطاع المخرج بعراقة خبرته وتراكم تجربته في تكوين مشهدية مسرحية مدهشة، فتناغمت الحركات التعبيرية مع المؤثرات الصوتية الموائمة للحدث، والإضاءة المقتصدة من دون إسفاف، والديكور الذي يفاجئ المتلقين بأفكار جديدة انطلاقا من خشبة عرض صغيرة ومن ثم انطلاق عربة الخيول التي امتدت بعد ذلك جسرا بين ضفتين، وثمة مشهدية رائعة تمثلت في صعود السيد إلى الأعلى متعاليا عن الآخرين بحركة إبداعية جميلة، إذ أخذه الزهو إلى مناطق الاستعلاء، وهذا بفعل العبد الذي سهل له ذلك الصعود المزيف، ثم يعود إلى الواقع الحقيقي والبائس، وهكذا حيث تتقلب الصورة من الأمل إلى البؤس، ومن الهيمنة إلى الاستلطاف، وهكذا تتستر الأحداث، ولا تنكشف بسهولة، حتى يتم سحب العربة لتتشكل هنالك ضفتان منفصلتان، تنفصل فيها كل ثقافة بألوان وأشكال مختلفة، فكانت الرؤية الإخراجية متناسقة في تكنيكها باستعمال التقنيات المساعدة أفقيا والتي تتمثل في العربة والمنصتين الصغيرتين، وعموديا في استعمال الرافعة ونزول الغطاءين البلاستيكيين الشفافين من الأعلى اللذين شكلا سجنين أو قفصين فصلا السيد والعبد عن الواقع المعيش في مكانين منفصلين، إذ تهطل الألوان على رأسيهما وتصبغهما بألوان مختلفة تشكل نماذج إنسانية ثقافية غريبة ومتباعدة، وهنا استطاع المخرج أن يملأ الفضاء المسرحي في كل جوانبه حركة وأداء وتعبيرا ومعانيَ وأسئلة عن مفهوم العلاقات الإنسانية ومخرجاتها، هنا كانت السينوغرافيا بتقنياتها وتكنيكها وإكسسواراتها معبرة ومتضافرة تماما مع الحدث والبناء والشكل الدرامي، تؤدي غاياتها الفنية والجمالية، وما أجمل أن تتناسق العملية الفنية برمتها من حيث الفكرة والرؤية الإخراجية والتمثيل والسينوغرافيا المتزنة لتحقق مشهدية مسرحية تحترم المتلقي وتكون وفية للمسرح الجميل.
واعتمد العرض على الحوار باللغة العربية الفصحى بين الممثلين، بعيدا عن الإسهاب والحشو غير النافع، إذ اتكأ العرض على الأداء والجمل الحركية التعبيرية والسينوغرافيا للتقليل من الحوارات والثرثرة التي تفقد وهج العرض المسرحي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك