بين فترة وأخرى أعود إلى صندوق جدي الحديدي لأتصفح كل تلك الأوراق الصفراء المهترئة، ربما بحثًا عن الحكمة أو في بعض الأحيان لمجرد التسلية، وعادة أجد ما أبحث عنه، وفي بعض الأوقات لا أجد، إلا أني أشعر أنني قضيت وقتا جيدا مع جدي، وأفكاره وملاحظات عن طباع أنواع من البشر. وخلال بحثي هذه المرة وجدت هذه الحكاية.. في مستشفى من المستشفيات القديمة.. يحكى أنه كان هناك مريضان هرمان في غرفة واحدة، كلاهما معه مرض عضال. أحدهما كان مسموحًا له بالجلوس في سريره مدة ساعة يوميًا بعد العصر، ولحسن حظه فقد كان سريره بجانب النافذة الوحيدة في الغرفة، أما الآخر فكان عليه أن يبقى مستلقيًا على ظهره طوال الوقت. كان المريضان يقضيان وقتهما في الكلام، من دون أن يرى أحدهما الآخر، لأن كلاً منهما كان مستلقيًا على ظهره ناظرًا إلى السقف. تحدثا عن أهليهما، وعن بيتيهما، وعن حياتهما، وعن كل شيء. وفي كل يوم بعد العصر، كان الأول يجلس في سريره بحسب أوامر الطبيب، وينظر في النافذة، ويصف لصاحبه العالم الخارجي. وكان الآخر ينتظر هذه الساعة كما ينتظرها الأول، لأنها تجعل حياتهما مفعمة بالحيوية، وكان الثاني يصغي بكل شغف لوصف صاحبه للحياة في الخارج؛ وقد كان يقول من جملة كلامه مثلاً: «ففي الحديقة كان هناك بحيرة كبيرة يسبح فيها البط، والأولاد صنعوا زوارق من مواد مختلفة وأخذوا يلعبون فيها داخل الماء، وهناك رجل يؤجِّر المراكب الصغيرة للناس يبحرون بها في البحيرة. والنساء قد أدخلت كل منهن ذراعها في ذراع زوجها، والجميع يتمشى حول حافة البحيرة، وهناك آخرون جلسوا في ظلال الأشجار أو بجانب الزهور ذات الألوان الجذابة. ومنظر السماء كان بديعًا يسر الناظرين»، فيما كان يقوم الأول بعملية الوصف هذه ينصت الآخر في ذهول لهذا الوصف الدقيق الرائع، ثم يغمض عينيه ويبدأ في تصور ذلك المنظر البديع للحياة خارج المستشفى. وفي أحد الأيام وصف له عرضًا عسكريًا، وعلى الرغم من أنه لم يسمع عزف الفرقة الموسيقية إلا أنه كان يراها بعيني عقله من خلال وصف صاحبه لها. ومرت الأيام والأسابيع والسنون، وكل منهما سعيد بصاحبه. وفي أحد الأيام جاءت الممرضة صباحًا لخدمتهما كعادتها، فوجدت المريض الذي بجانب النافذة قد قضى نحبه خلال الليل. ولم يعلم الآخر بوفاته إلا من خلال حديث الممرضة وهي تطلب المساعدة لإخراجه من الغرفة، فحزن على صاحبه أشد الحزن. وعندما وجد الفرصة مناسبة طلب من الممرضة أن تنقل سريره إلى جانب النافذة، ولما لم يكن هناك مانع فقد أجابت طلبه، ولما حانت ساعة بعد العصر وتذكر الحديث الشيق الذي كان يتحفه به صاحبه انتحب لفقده، ولكنه قرر أن يحاول الجلوس ليعوض ما فاته في هذه الساعة. وتحامل على نفسه وهو يتألم، ورفع رأسه رويدًا رويدًا مستعينًا بذراعيه، ثم اتكأ على أحد مرفقيه وأدار وجهه ببطء شديد تجاه النافذة لينظر العالم الخارجي. وهنا كانت المفاجأة. لم ير أمامه إلا جدارًا أصم من جدران المستشفى، فقد كانت النافذة على ساحة المستشفى الداخلية. نادى الممرضة وسألها إن كانت هذه هي النافذة التي كان صاحبه ينظر من خلالها، فأجابت إنها هي، فالغرفة ليس فيها سوى نافذة واحدة. ثم سألته عن سبب تعجبه، فقص عليها ما كان يرى صاحبه عبر النافذة وما كان يصفه له. كان تعجب الممرضة هنا أكبر، إذ قالت له: «ولكن المتوفى كان أعمى، ولم يكن يرى حتى هذا الجدار الأصم، ولعله أراد أن يجعل حياتك سعيدة حتى لا تُصاب باليأس فتتمنى الموت». كتب جدي في نهاية الورقة ملاحظة أو تعقيبا على هذه القصة، وهو يذكر بعضا من أسماء أصحابه الذين عاش معهم أجمل لحظات حياته في ذلك الزمن الجميل، فيقول: «فعلاً كان لدي أصدقاء يعيدون الروح والسعادة إلى النفس بعد أن تضيق بنا الدنيا، كنا ثلاثة، ولكن لم نختلف قط، وإنما كنا نبحث عن بعضنا البعض عندما تظلم الدنيا». هذه القصة ذكرتني بقصة أخرى ذكرتها لي متدربة من دولة شقيقة في برنامج تدريبي عن (الذكاء الإداري)، أتذكر أنني كنت أتحدث واستعرض أنواع المسؤولين في المؤسسات وأمزجتهم وكيفية التعامل معهم، وفي فترة الاستراحة تقدمت مني وقالت لدي أمر أريد أن أخبرك به، شجعتها على الكلام فبدأت تقص عليّ هذه الحكاية: كان لدينا مسؤول، هذا المسؤول كنا نعرف تمامًا أنه كان يخاف بصورة كبيرة من زوجته، لأنها من الطبقة الثرية وهو من الطبقة المتوسطة أو أقل من ذلك، كانت تلك الزوجة سليطة ليس بلسانها فقط وإنما حتى بطول يدها، فقد كانت تضربه ولا ترحمه مستندة على سمعة عائلتها وثرائها، فكانت تشعر أن هذا الزوج صعلوك تسلق نحوها حتى وصل إلى ما كان يبغي. لهذا السبب كان يستمتع هذا المسؤول بالليالي الحمراء، ويسافر إلى تلك الدول ليهرب من زوجته ويغرق في الملذات أيًّا ما كان نوعها، ومع ذلك كان لا يستطيع أن يهرب من شبحها حتى وهو في تلك السهرات. وكان بصورة يومية حينما يقف تحت الدش البارد يتذكر الموظفين حينها فإن حاله تنقلب، يقوم بتقمص شخصية زوجته على الموظفين، وحينما كان يدخل الإدارة فهو المدير الجبار الذي يرتعد أمامه الموظفون، يجب أن يريهم أنه قوي، جبار، فهو يصرخ على ذلك الموظف، ويهدد الآخر بالفصل والثالث سيقوم بتحطيمه. وحينما كان يركب السيارة، فإنه في الكيلومتر الأول، كان ومازال وجهه ونفسيته كما كانت في المنزل، ذلك الإنسان الذليل الذي يقف بين يدي زوجته بكل تواضع وإذلال، ويجب في الكثير من الأحيان أن يركع تحت قدميها حتى لا تضربه بقسوة أو تركله، أو تفعل الأعاجيب. وفي الكيلومتر الثاني، تبدأ قسمات وجهه تتغير تدريجيًا، فتختلط الذلة بصفة المسؤول الذي يحاول أن يظهره أمام الموظفين. في الكيلومتر الثالث، تتغير ملامحه تمامًا، فيصبح ذلك المسؤول الذي لا يرحم، ذلك المسؤول العصبي المزاج الذي يجب أن تسري كلمته بين الموظفين مهما كانت درجاتهم وأعمارهم أو حتى درجاتهم العلمية، فهو المسؤول المرعب الذي يخشاه الجميع، ليس مهمًّا ماذا فعل الموظف، «المهم أنهم يخشوني يهابوني»، «ما أجمل تلك النظرات التي تتفجر من أعينهم عندما يروني قادما، هذا يفرحني كثيرًا». «فأنا المسؤول لا أخشى أحدا، كلهم يخافوني، ماذا سأفعل اليوم؟ سوف أنزل غضبي على الموظفين، على من منهم يا ترى؟ نعم ذلك السائق، سأقول له، سوف أفصلك يومًا ما، نعم، سيخاف، سيترجاني، سيقول: لماذا؟ ماذا فعلت، فأنا صاحب أسرة وأولاد، ليس لنا معيل آخر، ارحم شيخوختي، أرجوك يا سعادة المسؤول. وربما يبكي، نعم سأجعله يبكي. ثم ذلك الفرّاش، سأقول له إن رائحته كريهة، هيا اذهب بعيدًا عني، لا أرغب في كوب القهوة التي تقوم بإعدادها، سأنقلك يا هذا إلى مكان آخر، من المؤكد أنه سيبكي. ثم، ثم ذلك الإنسان الذي يعتقد أنه رئيس القسم، ذلك الأحمق، اليوم سأبعث إليه بمجموعة من الرسائل التي أطلب فيها منه أن ينجز بعض الأمور التي لا يمكن أن ينجزها مهما حاول، وزيادة في إذلاله، سأطلب من إنجازها في وقت قصيرة، سيضرب رأسه في الحائط، سيصرخ، ثم سيبكي أيضًا، وأنا سأضحك، ذلك الأحمق، لماذا لا يطيعني؟ لماذا يعارضني؟ ثم سأقف في الممر وسأنادي على رؤساء الأقسام، وسأصرخ فيهم، سيخافون، نعم سيخافون، حتمًا سيخافون، ما أجمل القوة، أنا القوي، أنا الأعظم، كما قال الملاكم محمد علي كلاي، نعم أنا الأعظم، لا أحد يستطيع أن يمنعني من إذلال رقاب البشر، وخاصة الفقراء منهم، فهذه الفئة من البشر ما وجدوا إلا لندوس على رقابهم نحن الأغنياء، وبالإضافة إلى ذلك فأنا المسؤول. والغريب أن المسؤول كان يفعل الأعاجيب في الموظفين، لذلك فقد اتفق الجميع على أنه (الأرعن)، إلا زوجته، لأنه كان يتغير بطريقة عكسية في طريق العودة إلى المنزل فيتحول من المسؤول الأرعن إلى شخص آخر. سكتُ، وأنا استمع إلى تلك السيدة وعندما انتهت من سرد قصتها، قلت لها: أين هذا المسؤول بعد كل هذه السنوات؟ قالت: لا أعلم، ولكن بالتأكيد مازالت اللعنات تطارده. ثم ذهبتُ وحدي في خيالاتي، ترى لماذا يفعل الإنسان ذلك؟ لماذا يتسلط على رقاب البشر حينما توضع بعض الصلاحيات في يده؟ هل يعتقد أنه قد امتلك الدنيا وما فيها. ونحن نعلم اليوم أن للبشر طباعا مختلفة، ولكن يمكن تلخيصها في النوع السلبي والنوع الإيجابي، أو النوع الذي يمنحك الكآبة والنوع الذي يهديك السعادة، النوع الذي تتوق إليه والنوع الذي تتهرب منه، وهناك من البشر نص نص، فيمكنه أن يتأقلم بحسب الظروف التي يعيشها، وعلى أي شخص عندما يصاحب يجب أن يعرف من يصاحب، المهم ألا يكون سلبيًا أو مؤذيًا، فمثل هؤلاء البشر لا يتورعون عن فعل شيء في سبيل مصالحهم هم، فلا يهتمون بمن حولهم، وربما لا يشعرون بهم، ليس ذلك فحسب، وإنما العديد منهم لا يعترفون بأن بقية البشر لهم أحاسيس تعاني أو تتألم، فإنهم يجرحون ويضربون بالسكاكين وبألسنتهم من غير شعور، المهم سعادتهم هم فقط. لذلك عليك أن تختار، وعندما تختار بطريقة خاطئة فلا تلُم إلا نفسك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك