بقلم: الدكتور أحمد علي سليمان
نستكمل ما بدأناه من قبل، ونقول: في الوقت الذي يعاني فيه العالم بأسره مشكلات اقتصادية وتفشي الغلاء، وضعف التبادل التِّجاري، وفي ظل الحاجة الماسة إلى الأغذية والأدوية والمستلزمات الطبية... والتي يجب أن تُبذل لكل مريض ومحتاج بسهولة ومن دون مغالاة وبمكسب قليل جدا؛ حتى يتعافى المرضى، ويشبع الجوعى والمحرمون، نجد أن بعضًا ممن أعماهم الشيطان، وملأ الجشع قلوبهم، يحتكرون أقوات الناس، وأدويتهم، وحاجياتهم الضرورية... وغيرها، ويدور الشخص وأهله «كعب داير» لمحاولة الحصول على هذه الحاجات الضرورية لحياته ونجاته وللأسف لا يجدونها.. فيزداد المريض همًّا على همَّه، ويزداد الفقير حزنًا على حزنه، ويزداد المحتاج قلقًا على قلقه.. ويا لها من خيانة وجرائم مركبة من المحتكِر!
إنني من هنا أطالب بالضرب بيد من حديد على هؤلاء المحتكرين الذين خانوا الله -تعالى-، وخانوا رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وخانوا الوطن والناس والأمانة، وباعوا أنفسهم للشيطان، واسترخصوا حياة الناس في ظل الوباء والغلاء الذي أتعب الناس في كل مكان.
لقد رتَّب الإسلام الحنيف «لولي الأمر الحق في القضاء على هذه الآفات ومعالجة آثارها؛ بما يحقق المصلحة العامة للناس، ودفع الضرر العام عن البلاد والعباد؛ ومن ثمَّ له الحق في إجبار المحتكِر على بيع السلعة بسعر المثل، أو نزعها من يده وبيعها بسعر المثل وإعطائه حقه، وللحاكم الحق في تسعير البضائع، وإجبار المستغلين على بيعها بالسعر العادل، وله الحق أيضا في مصادرة المال الحرام إن علم به» (موسوعة عناية القرآن بحقوق الإنسان د. زينب أبو الفضل)، ومن ثم يَجوزُ للحاكِمِ إجبارُ مُحتَكِرِ الطَّعامِ على البَيعِ، إذا خِيفَ الضَّرَرُ على العامَّةِ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ، دفعًا للضرر العام، وبذلك يحمي الإسلامُ الناسَ من الغشِّ والاستغلالِ والجشعِ والمغالاةِ.
كما أطالب الجميع بالتحلي بمنظومة القيم الإسلامية والإنسانية، لا سيما قيمة الإيثار والقناعة، وتطبيقها في واقعنا المعاش، وعدم تخزين الأدوية والأغذية وغيرها؛ بما يتسبب في حرمان الآخرين من الحصول عليها؛ حتى تُتاح لكل المحتاجين. فما فائدة تخزين الأدوية -مثلا- في البيوت -ولسنا في حاجة إليها- في حين أن غيرنا قد يَلقى حتفه بسبب عدم وجودها؟!
وهكذا فنحن جميعا علينا عبء كبير في أن نتكاتف جميعًا، ونكون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، بحيث يساعد بعضُنا بعضًا.. ويؤثر بعضُنا بعضًا.. نعم قد يستطيع الشخص أن يؤثر غيره على نفسه وهو ما يزال على قيد الحياة، أما أن يؤثر أخاه وهو في سكرات الموت، فهذا إيثار أعجب من الخيال!!
وقصة الصحابة الكرام الذين ماتوا عطشا في معركة اليرموك خير شاهد على سمو نفوسهم. فقد أخرج أبو نعيم أن الحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وعيَّاش بن أبي ربيعة (رضي الله عنهم) جُرحوا في معركة اليرموك –فأسرع عدد من الصحابة بحملهم إلى الخيمة المخصصة لعلاج الجرحى– فشعروا بالعطش الشديد، فطلب الحارسُ شربةَ ماءٍ ليروي بها عطشه الشديد، فلما جيئ بها، نظر إليه عكرمةُ، فقال الحارس للساقي: اذهب بها إلى عكرمة، فلما أخذها عكرمة، نظر إليه عيَّاشُ، فقال عكرمةُ: اذهب بها إلى عيَّاش، فلما وصل إلي عيَّاش وجده قد مات!!، فرجع بشربة الماء للحارث فوجده قد مات، فذهب إلى عكرمة فوجده قد مات!! وهكذا رفض كلُّ واحد منهم أن يشرب، وآثر غيرَه على نفسه، اعتقادا منه أن أخيه بحاجة إلى شربة الماء أكثر منه.. وصدق الله العظيم القائل: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر:9).
وقد جعل الله سبحانه وتعالى مِن البرِّ بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والأنبياء، إطعام الطَّعام للمحتاجين، وبذله للفقراء والضعفاء مع حبه الشديد والتعلق به والرغبة فيه، قال تعالى: «لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة: 177). وقال تعالى: «عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا» (الإنسان:6-12).
فهلا تعلمنا الدرس من هؤلاء الأماجد الذين خلدهم التاريخ بشريف الأقلام، وجليل المداد، في سجلات الخالدين.. وبالله تعالى التوفيق.
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - مصر
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك