العدد : ١٦٩٩٠ - السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٩٠ - السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

حكاية أب مع ابنه وجوهر العلاقة مع الأبناء

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ٢٣ يوليو ٢٠٢٣ - 02:00

في‭ ‬جلسة‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬روى‭ ‬لنا‭ ‬أحد‭ ‬الحاضرين‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬عن‭ ‬صديق،‭ ‬وهي‭ ‬كالتالي‭:‬

يقول‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬أب،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬عادة‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬أن‭ ‬يتصل‭ ‬يوميًا‭ ‬عند‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬بزوجته‭ ‬ليسألها‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬تريد‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬قبيل‭ ‬وصوله‭ ‬الى‭ ‬المنزل،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬اتصل‭ ‬كالعادة،‭ ‬

الأب‭: ‬آلو،‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬هل‭ ‬تحتاجين‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬اشتريه‭ ‬وأنا‭ ‬قادم؟

الأم‭: ‬لا،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭.‬

الأب‭: ‬طيب،‭ ‬إذن‭ ‬مسافة‭ ‬الطريق‭ ‬وأكون‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬جهزي‭ ‬الغداء‭ ‬لأني‭ ‬جائع‭ ‬ولدي‭ ‬عمل‭ ‬بعد‭ ‬العصر‭.‬

الأم‭: ‬حاضر‭.‬

ولكنها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬ولأنها‭ ‬مستعجلة،‭ ‬تركت‭ ‬هاتفها‭ ‬ونسيت‭ ‬أن‭ ‬تغلقه،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يقفل‭ ‬الأب‭ ‬هاتفه،‭ ‬سمع‭ ‬زوجته‭ ‬وابنه‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬يتحدثان‭.‬

عبد‭ ‬الله‭: ‬هل‭ ‬سأل‭ ‬عني‭ ‬أبي؟

الأم‭: ‬أكيد‭ ‬يا‭ ‬حبيبي،‭ ‬هو‭ ‬يحبك‭ ‬كثيرًا‭.‬

عبد‭ ‬الله‭: ‬أنا‭ ‬متأكد‭ ‬هو‭ ‬لم‭ ‬يسأل‭ ‬عني،‭ ‬هو‭ ‬لو‭ ‬يحبني‭ ‬كما‭ ‬تقولين‭ ‬لعلمني‭ ‬الشطرنج‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬إلحاحي‭ ‬عليه‭.‬

وكان‭ ‬الأب‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يضع‭ ‬الهاتف‭ ‬على‭ ‬أذنه‭ ‬ويسمع،‭ ‬ثم‭ ‬أوقف‭ ‬السيارة‭ ‬لكي‭ ‬يستمع‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬حديثهما،‭ ‬سمع‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬يكمل‭ ‬حديثه‭ ‬ويقول‭ ‬للأم‭.‬

عبد‭ ‬الله‭: ‬هل‭ ‬تذكرين‭ ‬الشطرنج‭ ‬الذي‭ ‬حصلت‭ ‬عليه‭ ‬هدية‭ ‬لنجاحي‭ ‬السنة‭ ‬الماضية،‭ ‬تمنيت‭ ‬أن‭ ‬يعلمني،‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬فعلمني‭ ‬حركتين،‭ ‬ثم‭ ‬جاءه‭ ‬اتصال‭ ‬فتركني‭ ‬وذهب،‭ ‬وكلما‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬تعليمي‭ ‬يكون‭ ‬مشغولاً،‭ ‬هل‭ ‬تعرفين‭ ‬من‭ ‬علمني‭ ‬الشطرنج؟‭ ‬والد‭ ‬صديقي‭ ‬أحمد‭. ‬عندما‭ ‬سمعني‭ ‬أتوسل‭ ‬أحمد‭ ‬أن‭ ‬يعلمني‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬تعال‭ ‬أعلمك‭.‬

الأم‭: ‬أخفض‭ ‬صوتك‭ ‬لأن‭ ‬والدك‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الوصول‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬يجري‭ ‬والأب‭ ‬يسمع،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ذهول‭.‬

عبد‭ ‬الله‭: ‬هل‭ ‬أصارحك‭ ‬بشيء‭ ‬يا‭ ‬أمي،‭ ‬عندما‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬أحمد‭ ‬صديقي‭ ‬ويعود‭ ‬أبوه‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬يستأذن‭ ‬أحمد‭ ‬مني‭ ‬ليفتح‭ ‬الباب‭ ‬لأبيه‭. ‬وعندما‭ ‬يفتح‭ ‬الباب‭ ‬يسلم‭ ‬على‭ ‬أبيه‭ ‬يسأله‭ ‬أبوه‭ ‬وهو‭ ‬يفتح‭ ‬يداه‭ ‬أين‭ ‬الحضن‭ ‬يا‭ ‬أحمد؟‭ ‬فيرمي‭ ‬أحمد‭ ‬بنفسه‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬أبيه،‭ ‬وبعدها‭ ‬يعود‭ ‬لنكمل‭ ‬اللعب‭.‬

هزت‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬الأب‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬في‭ ‬السيارة‭. ‬فقامت‭ ‬الأم‭ ‬بحضن‭ ‬ولدها‭ ‬بقوة،‭ ‬وقالت‭ ‬له‭: ‬ألا‭ ‬أحضنك‭ ‬أنا‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬عند‭ ‬عودتك‭ ‬من‭ ‬المدرسة؟

وفي‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬سمع‭ ‬الجملة‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬سيول‭ ‬دموعه،‭ ‬وقال‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬يا‭ ‬ليتني‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬ولدي‮»‬‭.‬

عبد‭ ‬الله‭: ‬يا‭ ‬أمي،‭ ‬أنا‭ ‬جائع‭ ‬لحضن‭ ‬أبي‭.‬

الأم‭: ‬يا‭ ‬عبدالله،‭ ‬أبوك‭ ‬يعود‭ ‬وهو‭ ‬منهك‭ ‬من‭ ‬التعب،‭ ‬أعذره‭.‬

عبد‭ ‬الله‭: ‬أعرف،‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬دائمًا‭ ‬احتياجاتك‭ ‬واحتياجات‭ ‬البيت‭ ‬وأوراق‭ ‬العمل،‭ ‬وعندما‭ ‬يجلس‭ ‬ليستريح‭ ‬يمسك‭ ‬الهاتف‭ ‬ويكمل‭ ‬اتصالاته‭ ‬ويعبث‭ ‬بالأوراق‭.‬

ثم‭ ‬جاءت‭ ‬لحظة‭ ‬صمت‭ ‬طويلة‭.‬

وبعدها‭ ‬طلب‭ ‬عبدالله‭ ‬من‭ ‬أمه‭ ‬هاتفها‭ ‬ليلعب‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬يحين‭ ‬موعد‭ ‬الغداء‭ ‬وعودة‭ ‬الأب‭. ‬وانتبه‭ ‬الأب‭ ‬فأسرع‭ ‬وأغلق‭ ‬الهاتف‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬ابنه‭. ‬ثم‭ ‬أخذ‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬كلام‭ ‬ولده‭. ‬وأثناء‭ ‬ذلك‭ ‬بدأ‭ ‬يعيد‭ ‬علاقته‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬كشريط‭ ‬سينمائي،‭ ‬ويعيد‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬سمعه‭. ‬فكانت‭ ‬مشاعره‭ ‬تهزه،‭ ‬وسأل‭ ‬نفسه‭ ‬سؤالا‭: ‬‮«‬كيف‭ ‬عدّت‭ ‬سنين‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬ابني‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أفكر‭ ‬باحتضانه؟‮»‬‭. ‬عندها‭ ‬شعر‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬المحتاج‭ ‬كثيرًا‭ ‬إلى‭ ‬حضن‭ ‬ولده‭.‬

وفي‭ ‬طريق‭ ‬العودة،‭ ‬مرّ‭ ‬على‭ ‬محل‭ ‬الألعاب‭ ‬واشترى‭ ‬شطرنج‭ ‬جديدا،‭ ‬وغلفه‭ ‬كأحلى‭ ‬هدية،‭ ‬ورجع‭ ‬مسرعًا‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬سيفعل؟‭ ‬أو‭ ‬كيف‭ ‬يبدأ؟‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعرفه‭ ‬أن‭ ‬عليه‭ ‬تغيير‭ ‬نفسه‭ ‬وإصلاح‭ ‬الأوضاع‭. ‬ترك‭ ‬أوراق‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬سيارته،‭ ‬وحرص‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬غير‭ ‬الهدية‭. ‬فوقف‭ ‬بالهدية‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬البيت،‭ ‬ولم‭ ‬يفتح‭ ‬الباب‭ ‬بالمفتاح،‭ ‬وإنما‭ ‬ضغط‭ ‬على‭ ‬الجرس،‭ ‬فرن‭.‬

فتح‭ ‬عبدالله‭ ‬الباب،‭ ‬وجد‭ ‬أباه‭ ‬واقفا‭ ‬أمامه‭ ‬وفي‭ ‬يديه‭ ‬كيس‭ ‬جميل،‭ ‬وعلى‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬حب‭ ‬عريضة‭ ‬لم‭ ‬يرها‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

نادت‭ ‬الأم‭ ‬من‭ ‬الداخل‭: ‬مَنْ‭ ‬بالباب‭ ‬يا‭ ‬عبدالله؟

عبدالله‭: ‬إنه‭ ‬أبي‭. ‬قالها‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أي‭ ‬اكتراث‭.‬

دخل‭ ‬الأب‭ ‬وقفل‭ ‬الباب،‭ ‬حينها‭ ‬عزم‭ ‬عبدالله‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬غرفته،‭ ‬ولكن‭ ‬الأب‭ ‬سارع‭ ‬وقال‭: ‬أين‭ ‬حضن‭ ‬بابا؟

تسمر‭ ‬عبدالله‭ ‬في‭ ‬مكانه،‭ ‬والتفت‭ ‬وشعر‭ ‬أن‭ ‬رأسه‭ ‬يدور،‭ ‬وكأنه‭ ‬يبحث‭ ‬ليتأكد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬سمعه‭ ‬صحيح،‭ ‬فقال‭: ‬هل‭ ‬قلت‭ ‬شيئًا‭ ‬يا‭ ‬أبي؟

الأب‭: ‬نعم،‭ ‬قلت‭ ‬لك‭ ‬أين‭ ‬الحضن‭ ‬يا‭ ‬عبدالله؟

جرى‭ ‬عبدالله‭ ‬وصرخ‭ ‬وهو‭ ‬يفتح‭ ‬ذراعيه‭ ‬فارتمى‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬أبيه،‭ ‬رمى‭ ‬الأب‭ ‬الهدية‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وحضن‭ ‬ابنه،‭ ‬وظل‭ ‬يقبل‭ ‬ابنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬وهو‭ ‬يحمله،‭ ‬وكأنه‭ ‬يراه‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭.‬

خرجت‭ ‬الأم‭ ‬من‭ ‬المطبخ،‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭: ‬حالاً‭ ‬سيكون‭ ‬الغداء‭ ‬جاهزا‭. ‬ولكنها‭ ‬وقفت‭ ‬مكانها‭ ‬مستغربة‭ ‬وهي‭ ‬تشاهد‭ ‬زوجها‭ ‬يحمل‭ ‬الابن،‭ ‬وكأن‭ ‬الاثنين‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬ينتبها‭ ‬إلى‭ ‬دخولها‭. ‬ثم‭ ‬جلس‭ ‬الأب،‭ ‬وعبدالله‭ ‬في‭ ‬حضنه،‭ ‬وهمس‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭ ‬أن‭ ‬تؤجل‭ ‬الغداء‭ ‬قليلاً‭.‬

مرّ‭ ‬الوقت‭ ‬وعبدالله‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬حضن‭ ‬أبيه‭ ‬حتى‭ ‬غط‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬عميق،‭ ‬وبعدها‭ ‬نام‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬الجائع‭ ‬الأكثر‭ ‬لحضن‭ ‬ولده‭.‬

عندما‭ ‬انتهى‭ ‬الصديق‭ ‬من‭ ‬حكايته،‭ ‬قال‭ ‬أحد‭ ‬الحضور‭: ‬ماذا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭.‬

قال‭ ‬الصديق‭ ‬الذي‭ ‬روى‭ ‬الحكاية‭: ‬علينا‭ ‬يا‭ ‬صديقي‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ننتبه‭ ‬إلى‭ ‬تصرفاتنا‭ ‬مع‭ ‬أولادنا،‭ ‬وألا‭ ‬نتركهم،‭ ‬لأنهم‭ ‬سيبحثون‭ ‬عن‭ ‬الدفء‭ ‬خارج‭ ‬المنزل،‭ ‬وربما‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬آخرين،‭ ‬وربما‭ ‬هؤلاء‭ ‬يتصيدون‭ ‬مثل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأبناء‭ ‬فيرشدونهم‭ ‬إلى‭ ‬طرق‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬نرغب‭ ‬فيها،‭ ‬حينئذ‭ ‬سيكون‭ ‬ثمن‭ ‬العودة‭ ‬غاليًا،‭ ‬وربما‭ ‬نندم‭ ‬طوال‭ ‬حياتنا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ننتبه،‭ ‬ففي‭ ‬النهاية‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬سيدفع‭ ‬الفاتورة‭.‬

هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬ذكرتني‭ ‬بحكاية‭ ‬أخرى،‭ ‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬اتصل‭ ‬بي‭ ‬صديق،‭ ‬وقال‭: ‬إن‭ ‬أبنائي‭ ‬هجروني‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬وأنا‭ ‬الآن‭ ‬مقعد‭ ‬وكبير‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحدثهم‭ ‬عني‭ ‬حتى‭ ‬يزوروني‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الشهر‭.‬

اتصلت‭ ‬بالأبناء،‭ ‬وطلبت‭ ‬منهم‭ ‬عقد‭ ‬مجلس‭ ‬صلح‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬والدهم‭. ‬اتفقنا‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬وذهبنا‭ ‬جميعًا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الأب‭ ‬المقعد،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬خفايا‭ ‬الحكايات‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬الأب‭ ‬والأولاد‭.‬

جلسنا‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬البيت،‭ ‬أتى‭ ‬والدهم‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬المتحرك،‭ ‬فجلس‭ ‬أمام‭ ‬الأولاد،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬الملاحظة‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬الأولاد‭ ‬لم‭ ‬يهشوا‭ ‬ولم‭ ‬يرحبوا‭ ‬بالأب،‭ ‬استغربت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬وسألت‭ ‬نفسي‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬هذا‭ ‬الجفاء؟‮»‬‭.‬

بدأت‭ ‬أنا‭ ‬بالحديث،‭ ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬أذيب‭ ‬الجليد‭ ‬‭ ‬كما‭ ‬يقال‭ ‬‭ ‬بين‭ ‬الأطراف،‭ ‬ثم‭ ‬تحدث‭ ‬الأب‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يلطف‭ ‬الجو‭ ‬ويضحك،‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يعتذر‭ ‬عن‭ ‬أمور‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفها،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬خجلاً‭ ‬من‭ ‬التطرق‭ ‬إليها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الابن‭ ‬الأكبر‭ ‬فجأة‭ ‬قال‭ ‬وهو‭ ‬يقاطع‭ ‬والده‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬نتحدث‭ ‬بصراحة؟‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تقول‭ ‬إنك‭ ‬المخطئ؟‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تقول‭ ‬إنك‭ ‬هجرتنا‭ ‬10‭ ‬سنوات‭ ‬وكنا‭ ‬نحن‭ ‬مجرد‭ ‬أطفال‭ ‬وبأمسّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إليك؟‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬التي‭ ‬عشناها‭ ‬ونحن‭ ‬نعاني‭ ‬من‭ ‬ضنك‭ ‬الحياة‭ ‬وأنت‭ ‬لا‭ ‬تسأل‭ ‬عنا‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬نأكل‭ ‬وكيف‭ ‬نعيش؟‭ ‬لماذا‭ ‬تعود‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصحبنا‭ ‬رجالاً‭ ‬نعمل‭ ‬وفتحنا‭ ‬البيوت‭ ‬وأصبح‭ ‬لدينا‭ ‬الأولاد؟

هنا‭ ‬قالت‭ ‬البنت‭: ‬تصور‭ ‬يا‭ ‬أبي،‭ ‬تصور‭ ‬ليلة‭ ‬زفافي،‭ ‬أنت‭ ‬لا‭ ‬ولم‭ ‬تعرف‭ ‬أني‭ ‬تزوجت‭ ‬وأنجبت،‭ ‬ليلة‭ ‬زفافي‭ ‬بكيت‭ ‬ليس‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬شيء،‭ ‬وإنما‭ ‬كل‭ ‬صديقاتي‭ ‬كان‭ ‬آباؤهم‭ ‬يدخلون‭ ‬معهم‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬إلا‭ ‬أنا،‭ ‬فأنت‭ ‬كنت‭ ‬غائبًا‭ ‬ولا‭ ‬نعرف‭ ‬أين‭ ‬كنت‭. ‬ثم‭ ‬بكت‭.‬

تدخّل‭ ‬الابن‭ ‬الثالث‭ ‬وقال‭: ‬أين‭ ‬كنت‭ ‬عندما‭ ‬أصبت‭ ‬بشلل‭ ‬نصفي‭ ‬في‭ ‬جسدي‭ ‬كله،‭ ‬وتم‭ ‬تنويمي‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬مدة‭ ‬شهر،‭ ‬لم‭ ‬تزرني‭ ‬قط‭ ‬ولم‭ ‬تعرف‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬واليوم‭ ‬تعود‭ ‬إلينا‭ ‬لأنك‭ ‬محتاج‭.‬

ثم‭ ‬بكى‭ ‬الأب،‭ ‬وقال‭: ‬اعذروني‭ ‬فقد‭ ‬فقدت‭ ‬بصيرتي،‭ ‬وكأني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬فقدان‭ ‬الذاكرة،‭ ‬عشت‭ ‬حياتي‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الماضية‭ ‬وكأني‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الانسحاب،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬لماذا‭ ‬حدث‭ ‬ذلك،‭ ‬أنا‭ ‬أعتذر،‭ ‬فقط‭ ‬سامحوني‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬منكم،‭ ‬أريد‭ ‬فقط‭ ‬رعاية‭ ‬وحب‭.‬

قال‭ ‬الأب‭ ‬الأكبر‭: ‬أنت‭ ‬تريد‭ ‬الغفران،‭ ‬ولكني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أمنحك‭ ‬هذا‭ ‬الغفران،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬حكاية‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬رفعتها‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬المحاكم‭ ‬أنا‭ ‬وإخوتي‭ ‬وتطلب‭ ‬من‭ ‬المحكمة‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬رواتبنا‭ ‬الشهرية‭ ‬حتى‭ ‬ننفق‭ ‬عليك،‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الغفران‭ ‬الذي‭ ‬تريد،‭ ‬أنت‭ ‬مازلت‭ ‬كما‭ ‬أنت‭ ‬جاحد‭.‬

خرج‭ ‬الأبناء‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬خرجت‭ ‬خلفهم‭ ‬أحاول‭ ‬تهدئتهم‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬رفضوا‭ ‬كل‭ ‬المحاولات‭. ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬الأب‭ ‬وجلست‭ ‬معه،‭ ‬وقال‭: ‬أرأيت‭ ‬هذا‭ ‬الجحود‭ ‬وعقوق‭ ‬الوالدين‭.‬

فالتفت‭ ‬إليه‭ ‬وقالت‭: ‬نعم،‭ ‬ولكني‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬أرى‭ ‬عقوقا‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر،‭ ‬أنت‭ ‬يا‭ ‬رجل‭ ‬صنعت‭ ‬هذا‭ ‬بنفسك،‭ ‬كيف‭ ‬تفعل‭ ‬بنفسك‭ ‬مثل‭ ‬هذا،‭ ‬يا‭ ‬رجل‭ ‬إن‭ ‬عاطفة‭ ‬الأب‭ ‬والوالدين‭ ‬أقوى‭ ‬عاطفة‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬لماذا‭ ‬تركت‭ ‬أبناءك‭ ‬طوال‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات،‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬وتطلب‭ ‬الغفران‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث،،

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا