بقلم: عاطف الصبيحي
لا تنهض أمة ولا تقوم لها قائمة، وأفذاذها من أولي النُهى مقصيون، مهمشون، يضربون في الأرض لتحصيل قوت يومهم، ويتحصلون على رزق ذويهم، بينما غلاظ العقل يتيهون في الأرض متمتعين بأوفر الرزق وأرفه العيش، وهذه لعنة لم تسلم منها أمة من الأمم عبر محطاتها التاريخية التي مرت بها.
لم يؤدِ القهر أو قل القمع الفكري الناعم لتعطيل الإبداع الذهني –ضلع الحضارة الأول– من خلال البصر والنظر في الكتاب المنظور، أو الكتاب المسطور المكنون –القرآن– فحسب، بل أدى ذلك إلى تعطيل معظم الطاقات والاحتمالات المعرفية الإبداعية الأخرى في الحقل الحضاري، فالفن –ضلع الحضارة الثاني– بكافة أشكاله هو نوع من تجسيد الحرية في التأمل الشامل بما يحيط بنفس الفنان، وما وراء نفسه أوجدها المخيال المتجاوز للظواهر، الذي لا حدود له، كما العلوم على اختلافها باعتبارها الضلع الأول لمثلث الحضارة كما أسلفنا، فالمنتج العلمي بكافة فروعه، والإبداع الفني بمختلف تلاوينه في الموسيقى والرسم والأدب بكافة مجالاته، دُفن جُله في صدور حامليه، وعبّر عن ذلك أحد الشعراء الإنجليز وهو يتجول بين القبور قائلاً: كم من عالم وكم من فنان عاش ومات ولم يسمع به أحد، بسبب المنع والقمع المُعطل لكثير من الطاقات التي دُفنت مع أصحابها في التراب، ولم تر النور، ولم يستفد منها الناس، أو يستمتعون بها.
منهج العبودية واستراتيجية الاستعباد حكمت بالمنع على العقل أن يسهم في عمارة الكون وعلى الخيال من التعاطي مع جماليات الطبيعة الأخاذ، ونحن كأمة عبر تاريخها ليست بدعاً من الأمم، مررنا بمراحل صعود تلاها هبوط وانحدار، وكأنها سنة تاريخية وكونية لازبة لا يشبُّ عن قانونها الصارم أحد.
فالحسن بن الهيثم العالم الجهبذ في علم البصريات يفارق الحياة ضريراً لكثرة ما جلس لنسخ الكتب والمخطوطات، بهدف تحصيل قوته وقوت من يعول، إنسان يمتلك هذه العقلية الفذة يُترك لمصارعة ومكابدة النسخ حتى فقد بصره، وهو الذي لديه رؤية علمية أبعد من حدوده الجغرافية، وسابق لأقرانه، فهو الذي اقترح بناء السد العالي في موضعه الحالي في أرض مصر.
ولعل الفارابي أوفر حظاً من ابن الهيثم، حيث ارتقى في سُلم العمل إلى حارس في مزرعة، ليستفيد من السراج الزيتي ليطفئ ظمأ شغفه العقلي في القراءة والكتابة، وكان لا يزيد أجره عن درهم واحد، هذا الإقصاء أشد مضاضة على النفس من القتل الفيسيولوجي، بل هو بتعبير أدق قتل دون القتل، قتل الطموحات، ودفن الأفكار النيرة التي تدور في دهاليز العقول الكبيرة كعقل الفارابي وابن الهيثم وأمثالهم كثير، قتل الجوهر والإبقاء على المظهر يتجرع حسراته، في حين أن المتنبي تُلقى عليه أكياس الذهب والفضة لقصيدة أولها نفاق لسيف الدولة -لا أدري ماهية هذا السيف- وآخرها كذب على هذا السيف، ونحن هنا حتى لا نقع في تناقض، لسنا ضد الفن الشعري، هذا الفن الإنساني الوجداني، الذي أنتجه المتنبي وينتجه غيره، بل ضد المنهج الأعرج، منهج يُقصي عالماً ويُدني شاعرا، نعم لكل مجاله وعلى الراعي أن ينظر إلى كلا الطرفين بعين الاهتمام.
علومنا الإسلامية التي أنتجتها حضارتنا لم تكن علوما مؤسساتية، بل هي علوم فردية، أنتجها أفراد ولم تنتظم ضمن مؤسسة راعية لتلك المنتجات المعرفية، في إحدى الجامعات التقنية الغربية الكبرى الحالية استحدثوا قسم فلسفة في هذه الجامعة، بعد طرح سؤال من ينظُم منتجات الأبحاث العلمية ويربطها في رابط متسق، فكان الاقتراح أنه لا بد من إنشاء قسم للفلسفة تُناط به هذه المهمة، إنه عمل مؤسساتي بحق.
يصعب وصف الخسائر التي مرت على الأمة والأمم الأخرى والتي ستمر عليها، جراء الإقصاء والقمع والإهمال للعقول الجبارة التي حظيت بها الأمة وغيرها من الأمم، لذا تزخر جامعات الغرب ومعاهد البحث هناك بكوكبة كبيرة من أبناء هذه الأمة، يعملون ويبدعون تحت الحرية التي لا سقف لها إلا السماء. فإلى متى؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك