تُعد مقاربة الأكاديميّ علي بهداد الموسومة «الرحَالة المتأخرون: الاستشراق في عصر التفكك الاستعماري»، واحدة من المقاربات النادرة في مجالها في إطار عنايتها بتفكيك الأنساق الثقافيّة الحاكمة لخطاب الرحلات الغربيّة إلى المنطقة العربيّة، وأقول عن مقاربته إنها نادرة في مجالها بسبب عناية عدد كبير من المقاربات الخاصة بأدب الرحلات بالسياقات التاريخيّة والتوثيقيّة إذا ما استثنينا مشروع إدوارد سعيد التأسيسيّ عن الاستشراق والإمبريالية. كما أنَّ الفرادة في هذه المقاربة النقدية عائدة إلى أنها معنية بحقبة زمنية معينة يمكن تحديدها بمنتصف القرن التاسع عشر الميلاديّ وأوائل القرن العشرين الميلاديّ. أيّ أنَّنا بذلك نكون قد تجاوزنا المؤثِّر الرومنطيقيّ الحاكم والمهيمن على الرحلات الغربيّة إلى المنطقة العربيّة أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. لقد وظّف بهداد مقاربات ثقافيّة تستعين بآليات الخطاب الثقافيّ لتحليل الدراسات الكولونياليّة وما بعدها، وخاصة في التعرض إلى موضوع الاستشراق في القرن التاسع عشر الاستعماريّ. وهذا يعني أنَّ مقاربته استعانت بالنظرية الأدبيّة، والفلسفة، والإنثروبولوجيا، والتاريخ، والتحليل النفسي والتفكيك والتأويل. والأطروحة الكبرى التي يريد علي بهداد بيانها في كتابه هي النوستالجيا الغربيّة نحو الآخر وتمثيلاتها. لقد أراد أن يقول إنه في نصوص الاستشراق الجديد هناك معارضة كامنة للكولونياليّة.
شكَّلت الرحلات الغربيّة إلى المنطقة العربيّة في العصر الحديث متون مدونات أرشيفيّة ضخمة جدًا أرشفت كلَّ ما يتعلق بتاريخ المنطقة سياسيًا وثقافيًا وتاريخيًا، رغم اختلاف المرجعيات الناظمة لها، ورغم اختلاف منهجياتها في المعالجات، ولكن ثمَّة قواسم مشتركة بينها رغم الاختلافات الظاهرية. لقد حاول بهداد أن تكون مدوَّنته الرحلية ممثلة وشاملة فمن بلاد الشام إلى مصر والجزيرة العربيّة والمغرب العربيّ كما أنَّ ثمّة وقوف لديه عند الهند البريطانية، وهكذا ترد أسماء رحّالة من نرفال إلى فلوبير إلى آن بلنت إلى إيبرهاردت وغيرهم. لقد حاول بهداد استنطاق التمثيلات الثقافيّة الكبرى التي حكمت تمثيلات الأنا والآخر في تلك المدوّنات الصادرة عن خطاب كولونياليّ مهيمن بقوة. إذن مقاربته ليست رواية عن الرحلة بل هي خطاب عنها إذ تبرز هذه الكتابة بوصفها كتابة الرحَّالة الغربيين المتأخرين في عصر التفكك الاستعماري. في العصر الذي برز فيه السؤال لماذا الرحلة إلى هناك؟! بعد أن فقد الشرق سر جاذبيته، وبعد أن أصبح مجالاً معروفًا ومطروقًا ويمكن معرفته من خلال قراءة مئات من الكتب التوثيقية عنه.
_ثمّة محاور أسياسية في خطاب بهداد التفكيكيّ لهذه الحقبة التاريخية الإشكالية جدًا:
_الأنساق الثقافيّة المضادة في خطاب الرحلة الغربيّ:
_الاثنوغرافيا الكولونياليّة وسياسات الجنوسة: الحياة اليوميّة في الرحلة الاستشراقيّة:
كتب فلوبير من القدس إلى تيفولي غوتييه في الثالث عشر من آب عام 1850 رسالة قال فيها: «ينبغي أن تغذَّ السير قبل أن يكف الشرق عن الوجود، فلربَّما كنا آخر المتفكرين فيه». وتعبّر هذه الدعوة الملحة والمستيئسة بحدة، عن الشعور بالتأخر الذي خالج المستشرق أواخر القرن التاسع عشر تجاه علاقة الرحّالة الأوائل بالآخر الغرائبي. ولمَّا جاء الأول متأخرًا جدًا إلى الشرق؛ حين صيّرت السياحة والاستعمار الأوربيان الغرائبي مألوفًا، فقد واجهته صعوبة، إن لم تكن استحالة في العثور على مكان آخر وآفاق بديلة لاستجلائها واستكشافها وغزوها. وهكذا واجه المستشرق أواخر القرن التاسع عشر أزمة حول الكيفية التي يصير فيها «رحَّالة_كاتب» لما هو غرائبي في زمن التفكك الاستعماري. فإلى أين يتجه المرء من هناك؟ وأين يمكنه العثور على «آخر» حقيقيّ؟!
يحاول علي بهداد أن يبين الفرق في خطاب الرحلة الغربيّ بين الفرنسيين والإنكليز.
فقد أنتجت حالة التأخّر بالنسبة إلى معظم المستشرقين الفرنسيين خطابًا سوداوًيا نوستالجيًا يأخذ التشوف إلى الآخر المتواري عبره، طورًا مركزيًا. حاول المحدثون من الرحَّالة الفرنسيين، أمثال نرفال وفلوبير ولوتي وإيبر هاردت أن يمثلوا دوال غياب الآخر، بوصفها علامات سودواية لحضور غرائبي يوشك على الأفول. وبخلاف شعور المستشرقين الفرنسيين بالفقد والضياع، فقد أنتج موضوع التأخّر لدى الرحالة البريطانيين رغبة متفردة وجسورة في اكتشاف أماكن جديدة في وقت كان فيه الاستعمار البريطانيّ قد مدَّ نفوذه في كل ركن من أركان المعمورة تقريبًا. وقد كان المستشرقون البريطانيون خلافًا «للتشاؤمية النبوئية» التي عبّرت عنها رسالة فلوبير إلى غوتييه، مدفوعين من ريتشارد بيرتون إلى د. ه. لورنس بحاجة إيجابية للعثور على «مكان آخر» لم تطأه أقدام الرحالة السابقين، مكان يكون بمقدور الرحالة أن يكون طليعيًا بارتياده، ومغامرًا بطلاً وممتلكًا لخبرة حقيقية في الآخرية. وما جعل الصحاري الأفريقية والعربية ذات فتنة وجاذبية لمخيلة الرحّالة الفيكتوريين كامن تحديد في السعي وراء المكان البكر. ولقد أمدت هالة «الحقيقيّ» والغرائبي الخطر، المرتبطة بالمناطق التي بقيت «بقعًا بيضاء» في الخرائط الأوروبية، تبعًا لتعبير بيرتون، المستشرقين البريطانيين بآفاق بديلة مهيأة للوصف والقياس والرسم والعرض أمام بصر الجمهور الأوروبي. وقد كانت هذه الرحلات الإيديولوجية التي غالبًا ما وُصِفَت بأنها رحلات حج، متصلة بالرغبة المتأخرة نحو آخرية متوسطة بالروايات المبكرة حول الشرق، وبالاقتصاد الاستعماريّ للمعلومات. ولمَّا كان مجهزًا بإيديولوجية المغامرة فإنَّ الرحالة المتأخر سعى إثنوغرافيًا لصالح الجهاز المعلوماتيّ في النظام الاستعماريّ، مثلاً في الجمعية الجغرافية الملكية والجمعية الآسيوية الملكية ووزارة الخارجية البريطانية.
لقد كشفت الرحلات المتأخرة عن لحظة حاسمة في تاريخ الاستشراق غدا فيه البحث المتوحِّد عن مكان آخر، بما مثّله من استجابة ضدية لانطلاقة الحداثة الأوروبية، عاملاً منتجًا بصورة حاسمة في السياسات الصغرى للغزو الإمبرياليّ. فبانقلابه على العوامل التوحيدية «للحضارة الحديثة» في مشروعها التفاؤليّ لاستعادة وربَّما تأييد الآخر المتواري، فإنَّ الرحالة المستشرق يضطلع بتجربة حاسمة بتعبير بيرتون تنتج على نحو مفارق ضربًا من المرئية الإبيستمولوجية التي تسهم في نزوعات الإدماج والهيمنة لدى الاستعمار.
تناول علي بهداد بالدرس الفعاليات الفيزيائية الصغرى للعلاقة المعقدة بين رغبة الرحالة المتأخِّر في مكان آخر والإثنوغرافيا الجغرافية للصحاري العربية، عبر نص نموذجي هو كتاب الليدي آن بلنت الحج إلى نجد(1881). وقد ارتحلت المكتشفة والأكاديمية المستشرقة والنصيرة القوية للقومية العربية، آن بلنت عبر الشرق الأوسط بصحبة زوجها ويلفرد بلنت بين الأعوام 1875_1882. ويمثل كتاب «الحج إلى نجد» الملحوظات التي دوَّنتها في أثناء الرحلة، رواية لرحلة الزوجين إلى نجد عبر صحراء النفود، ومن ثم إلى بلاد فارس عبر وادي الفرات. في سعي منهما وراء المعلومات المتعلقة بالثقافة البدوية الحقيقية والخيول العربية. وقد تضمَّن الكتاب سلسة من الملحوظات الإثنوغرافية والوصوفات الجغرافية للصحراء وسرود سيرية حول الرحلة الشاقة. وقد تموقع هذا النص المتعدد، على نحو فاعل، بين النظام الداليّ للاستعمار من جهة، والانشغال الشخصيّ والفرديّ في الثقافة البدوية. وانطوى في بعض مستوياته، على كتابة تعارض الرغبة الأوروبية في السيطرة على الشرق الأوسط. وتبدَّى ذلك في موقف بلنت المعارض للمشروع الاستعماريّ الهادف إلى إقامة نظام سكة حديد في وادي الفرات. وكذلك في موقف بلنت الداعم بقوة للقومية العربيّة. يمثل كتاب «الحج» «ثنائية الوصف السرديّ» بما هو نظام دلالي تتوسط فيه كل من التجربة الشخصية والمعرفة الجغرافية الاثنوغرافية كي ينتج نصًا مقسمًا يسطر مادته حول الثقافتين الشرقية والاستشراقية وضدهما في الآن ذاته. وتكتسب أنظمة المعاني هذه تعقدًا أكبر من إشكاليات الجنوسة التي يندرج فيها هذا النص لأنه نص ثنائي. إذ تضاعف العلاقة بين الزوج والزوجة والرحالة والكاتب والإثنوغرافيّ والمغامر المبثوثة عبر أجزاء النص جميعها، موضوع الكتاب ومنطلقاته الآيديولوجية معميّة على الحدود بين المبحث الاثنوغرافي في كتب الرحلة والسيرة الذاتية والسيرة الغيرية.
_تمثيلات الجنوسة الثقافيّة عند بهداد:
_سلطة المستشرق وسياسات الجنوسة:
لايبدأ كتاب آن بلنت، «الحج إلى نجد» بسردها للرحلة أو بمقدمة صدرت بها النص، وإنَّما بتصدير قوي كتبه زوجها، محرر النص ومؤلف ملحقاته المتعلقة بتاريخ شمال الجزيرة العربية وجغرافيتها. ويشير هذا الإقحام للصوت الذكوريّ على نحو غير مفاجئ إلى انعدام المساواة في علاقة هذا الثنائيّ الاستشراقيّ، تلك العلاقة التي يحتل فيها الرجل موقع السلطة الخطابيّة التي تقر الصوت الأنثوي وتجيزه في كتاب الرحلة. ففي حقل الجنوسة المتصل بعلاقات السلطة الاستشراقية، حيث تكون المرأة مقصية أو تابعًا من توابع رحلة الرجل، فإنَّ تمثيلات المرأة للآخر الغربي يتوجب عليها أن تكون مسنودة بالرجل المستشرق. وقد تشكَّلت علاقات هذا الثنائيّ الاستشراقيّ وإنتاجهما المشترك السياسات المنزلية لبريطانيا القرن التاسع عشر التي تبطن بلاغة السرد المتعلقة بالحياة المنزلية؛ إذ تستقر علاقة الثنائي بلنت طوال رحلتهما إلى نجد، وفقا لميلمان، على النظام البطريركي للجنوسة، والنماذج العائلية التي خلقت سلطة ويلفرد بلنت على زوجتهن وهي علاقات تعيد إنتاج الزواج كشراكة غير متكافئة وعلاقة تراتبية تقوم على سلطة الرجل وامتثال الأنثى. ويقدم سرد الليدي بلنت أمثلة لا يأتي عليها عن الكيفية التي أنتجت فيها الممارسات اليومية في رحلات المستشرقين قسمة العمل المبني على أساس جنسيّ. ويتبدى هذا بدءًا من المرحلة الإعدادية للرحلة في دمشق، حيث ترك بلنت زوجته مع الطهاة وسائس الجمل كي يزور البازارات. وحتى اللحظة الأخيرة حين مثل «تعطشه للاستكشاف» الحافز لمتابعة رحلتهما عبر بلاد فارس على الضد من رغبة زوجته. وتبسط مدونات دفتر اليوميات المؤرخة ب 21 كانون الأول 1878 إلى 11 كانون الثاني من عام 1879 بما ترويه عن تجربتين مسائيتين أمثلة دالة نقرأ: «خرج ويلفرد هذا المساء نحوًا من الساعة، وجلب معه من الحقول بعض الإوز الذي كانت أسرابه تملأ الأفق. وأخذت أنا صورة للمدينة من وراء أحد الجدران» و«بينما كنت جالسة أرسم سكيتشات لهذا المنظر المثير (لضاحية في منطقة الجوف تقع على مقربة من صحراء النفود) قفل ويلفرد الذي تسلق قمة حجر عملاق يتوج التلة، عائدا بخبر مؤداه أنه اكتشف نقشًا يتعلق بالأبجدية اليونانية».
يؤلف صعود بلنت الرمزي إلى قمة التلة وممارسته الصيد بينما كانت آن تقوم برسم سكيتشات لمنظر بانورامي، لحظات نموذجية في الحياة اليومية لهذا الثنائيّ الاستشراقيّ. إذ تتجلى شخصية المستشرق الذكر في حركة دائبة وفي سعي محموم وراء المغامرات بينما ترتكس المستشرقة في وضع سكوني. فهي مقيّدة بالنماذج البطرياركية التي تملي عليها تصوير ما يحيط بها من مكانها في المنزل. وتولِّد إيديولوجية المغامرة رغبة عنيدة لدى المستشرق الذكر للاستكشاف والاكتشاف، وغالبًا ما تتم ممارستها بصفة فردية. «فلا يمكن لمشروع المغامرة الغرائبية كما لاحظ فيكتور سيغالين أن يكون إلا فرديًا وفريدًا». وختامًا أقول بأنَّ هذه المقاربة البحثية النقدية تستحق الوقوف عندها نظرا لاشتغالها على مدوَّنات الرحلة الغربية في عصر التفكك الاستعماري في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي.
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك