إذا كانت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية لا ترقُب إلاَّ ولا ذمة في الشعب الأمريكي نفسه، وفي صحة وأمن وسلامة المواطن الأمريكي، فماذا نتوقع أن يكون تعامل هذه الدولة الصناعية المتقدمة مع الشعوب الأخرى، وبخاصة الشعوب والدول الضعيفة والفقيرة، والأمم المتفرقة التي لا تجمعها كتلة واحدة تحت سقف ومظلة واحدة قوية ومتنفذة وذات سلطة عميقة؟
فمن أجل تحقيق السبق العسكري والسيطرة على موارد وثروات شعوب العالم، وخاصة في مجال تصنيع قنابل الدمار الشامل النووية والبيولوجية، ومن أجل بلوغ التقدم العلمي في جميع المجالات والقطاعات، فإن الدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لا تتأخر في استخدام الشعب الأمريكي نفسه، أو الشعوب الأخرى كفئران تجارب تُجري عليها اختباراتها الأولية، وفي الوقت نفسه ومن أجل الفوز في سباق التقدم والتنمية عامة فإنها لا تتردد في تطويع البيئة الأمريكية برمتها، أو أي بيئة أجنبية، من هواء، وماء، وتربة، كحقل تجارب كبيرة لا نهاية لها، فتستبيح حرماتها، وتعكر نقاوتها وصفاءها، وتدمرها وتعتدي عليها نوعياً وكمياً. فمن أجل تحقيق هذه الأهداف لا توجد خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، ولا مبادئ، ولا أخلاقيات، ولا قيم تقف أمامها وتتصدى لها، فكل ممارسة جائزة ومبررة، سواء من قبل الحكومة الأمريكية نفسها، أو من قبل الشركات العملاقة المسيطرة على قرارات وتوجهات الحكومات الأمريكية، والمهيمنة على سياساتها.
ولكن من محاسن الولايات المتحدة الأمريكية أن الشعب نفسه، وعلماء أمريكا أنفسهم هم الذين يفضحون ممارسات الحكومة والشركات فيُطلقونها إلى العلن عن طريق النشر في وسائل الإعلام مباشرة، أو من خلال الأبحاث العلمية، والنشر في المجلات البحثية المتخصصة، سواء عند وقوعها، أو بعد سنوات وعقود طويلة من القيام بها. فالأرشيف الأمريكي، مهما كان سرياً مدة سنوات طويلة، فإن هذه السرية تُرفع عنها ولو بعد حين، ولو طال عليها الزمن، فتتحول إلى وثائق عامة يطَّلعُ عليها العلماء والمختصون، كل في مجال علمه وتخصصه.
فعلى سبيل المثال، هناك التفجيرات النووية التي أجرتها الولايات المتحدة الأمريكية سراً وجهراً منذ التفجير التاريخي الأول المعروف بـ«ترنيتي» (Trinity) في 16 يوليو 1945 في ولاية نيو مكسيكو في مختبر لوْس ألامُوسْ (Los Alamos National Laboratory) حتى تفجيرات الانشطارات النووية الأخرى، ثم تفجيرات الاندماج النووي الهيدروجيني في جزر المارشال في المحيط الهادئ. فكل هذه التجارب الإرهابية الإشعاعية الكارثية على الشعوب في أمريكا وخارج أمريكا، وعلى مكونات البيئة والحياة الفطرية أخذت تنكشف أسرارها وخفاياها وتفاصيلها يوماً بعد يوم، وستنكشف معلومات جديدة أخرى حول تداعياتها على البشر والحجر في المستقبل القريب.
فهناك بحث سيُنشر قريباً يُقدم معلومات جديدة حول الانعكاسات المأساوية لتفجير ترنيتي الذي أُجري فوق برج حديدي على ارتفاع نحو 30 متراً فوق سطح الأرض. وهذا التفجير الأول من بين 100 تجربة نووية أخرى أُجريت على أرض الولايات المتحدة الأمريكية ضمن «مشروع منهاتن» الشديد السرية قبيل وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في الفترة من 1945 إلى 1962 في ولايتي نيو مكسيكو ونيفادا، والذي تمخض عنه إلقاء قنبلتين نوويتين، الأولى في هيروشيما في اليابان، والثانية بعدها بثلاثة أيام في ناجازاكي في 9 أغسطس 1945، حيث كانت الضربة القاضية التي أنهت الحرب. وإذا أردتَ أن تعيش أجواء هذا المشروع السري المشحونة والمعقدة الذي لم يعلم عنه أحد حتى معظم العاملين فيه، فيمكنك مشاهدة الفيلم الذي يُعرض حالياً تحت مسمى «أوبنهايمر» (Oppenheimer)، وهو الأمريكي الألماني الأصل الأب الروحي لقنبلة ترنيتي النووية الأولى.
فهذا البحث الجديد الأخير الذي سيَصدر تحت عنوان: «ترسبات تجارب الولايات المتحدة النووية في ولايتي نيو مكسيكو ونيفادا في الفترة من 1945 إلى 1962»، سيكشف النقاب عن معلومات وحقائق جديدة متعلقة بقضيتين رئيسيتين حول انفجار ترنيتي الأول. الأولى قوة الانفجار النووي، والثانية دائرة وحجم الترسبات والاشعاعات النووية الجافة والرطبة الناجمة عن الانفجار ونطاقها الجغرافي. وقد استندت الدراسة في الوصول إلى هذه الاستنتاجات ورسم خارطة لمناطق الترسبات الاشعاعية على آخر برامج الحاسب الآلي التي تم تطويرها في «الإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي» (نووا)، إضافة إلى النماذج الرياضية الحديثة التي استخدمتْ المعلومات التاريخية المتوافرة حول الطقس والعوامل المناخية في منطقة الانفجار.
أما الأولى فقد قدَّرت الدراسة بأن القوة الحقيقية للانفجار كانت أكبر وأشد من المعروفة سابقاً وهي 21 كيلو طنا من المادة المتفجرة تي إن تي (TNT) مقارنة بقوة 24.8 كيلو طنا بحسب البحث الحالي، مما يعني أن حجم الملوثات الاشعاعية المنبعثة بكل أنواعها، ودرجة سميتها أعلى بنسبٍ مرتفعة جداً مقارنة بالتقديرات السابقة، ولذلك فإن مردوداتها على صحة الشعب الأمريكي أجمع كانت أشد وطأة وتنكيلاً بالإصابة بالأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج.
والقضية الثانية التي كشفت الدراسة النقاب عنها لأول مرة هي دائرة انتشار الملوثات المشعة، والمساحة الجغرافية التي غطتها. فانفجار «ترنيتي» ولَّد سُحباً إشعاعية ارتفعت إلى السماء، فبلغت علو قرابة 22 كيلومتراً في عمود السماء، ثم تحركت هذه السحب القاتلة حسب اتجاه وقوة الرياح في ذلك الوقت، وانتقلت عبر مسافات جغرافية واسعة لم تكن معروفة من قبل. فهذه الدراسة أفادت بأن التلوث الاشعاعي لم ينزل على المدن الواقعة في ولاية نيو مكسيكو فحسب، وإنما سقطت ترسباتها المسببة للأسقام المزمنة على 46 ولاية أمريكية، بل إن هذه الملوثات المشعة عبرت الحدود الجغرافية الشمالية والجنوبية لأمريكا، فوصلت إلى دولة المكسيك جنوباً، وشمالاً إلى بحيرة كرافورد (Crawford) في أونتاريو في كندا في 20 يوليو 1945، أي بعد أربعة أيام من وقوع الانفجار.
فهذه العملية الإرهابية الداخلية التي أجرتها أيادي الحكومة الأمريكية طواعية وبشكلٍ متعمد على الشعب الأمريكي، إضافة إلى مئات العمليات الأخرى، كانت أسوأ بكثير من عملية 11 سبتمبر الكارثية التي مات فيها المئات من الشعب الأمريكي في تلك اللحظة، بل وفي تقديري لا يمكن مقارنتها بتلك العملية. فالإرهاب الإشعاعي المتعمد كان إرهاب دولة وألحق الضرر وبشكلٍ مستمر، ولسنوات طويلة حتى يومنا هذا بمئات الملايين من البشر والحياة الفطرية وعناصر البيئة داخل وخارج الولايات الأمريكية، فترسبت المواد المشعة مباشرة على صدور الناس من دون علمهم أو الإحساس بتعرضهم لها. فكما أنها أفسدت صحة الناس بطريقة فورية ومباشرة، فهذه المواد المشعة دهورت صحتهم بطرق غير مباشرة وعبر عقود من الزمن، فنزلت الملوثات المشعة مع المطر، والثلج فلوثت التربة، والمياه السطحية والجوفية، والنباتات والحيوانات وتراكمت فيها، ومنها انتقلت إلى الإنسان مع الوقت، وزاد تركيزها يوماً بعد يوم في جميع أعضاء جسده، فمنهم من قضى نحبه سريعاً، ومنهم من عانى سنوات عجاف طويلة من العلل والأمراض المزمنة، ومات موتة عصيبة بطيئة. والجريمة الكبرى التي قامت بها الحكومة الأمريكية هي اعتبار أن منطقة التفجير، وخاصة في ولاية نيو مكسيكو، خالية من السكان، فلا حياة بشرية فيها من المواطنين الأمريكيين، علماً بأنه كانت هناك عوائل فقيرة، وغير متعلمة وبسيطة تعيش في منطقة لا تبعد أكثر من 20 كيلومتراً عن أرض التفجير، وهؤلاء الناس كأنهم لا قيمة ولا وجود لهم في قاموس الإنسانية الأمريكية، فقد تُركوا على ضلالهم المعلوماتي، فلم يعلمُوا كلياً ما يدور حولهم، ولم يُخبرهم أحد بإخلاء منازلهم، سواء أثناء العملية الإرهابية، أو حتى بعد العملية.
وجدير بالذكر أإن هذه العمليات الإشعاعية الإرهابية التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من ستين عاماً ليست الآن جزءاً من التاريخ القديم، فذهبت آثارها، وانتهت تداعياتها، فهناك الآلاف من الشعب الأمريكي حتى الآن الذين يُقدمون طلبات التعويض لتدهور صحتهم بسبب التعرض لهذه الملوثات المشعة التي انبعثت من التفجيرات النووية قبل أكثر من ستة عقود، استناداً إلى قانون تعويضات التعرض للإشعاع لعام 1990 (Radiation Exposure Compensation Act). وقد أكد هذه الحقيقة التحقيق المنشور في مجلة «تايم» الأمريكية في 21 يوليو 2023، تحت عنوان: «عانى سكان منطقة نافاجو من التجارب النووية. لا يروي أوبنهايمر قصتنا».
فهذه الحكومات الأمريكية المتعاقبة لم ولن تغير سياساتها واستراتيجياتها العامة، فكل شيء عندهم حلال ومشروع من أجل الفوز على باقي دول العالم في سباق تحقيق التقدم والتطور والهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وها هي الآن تبدأ تطوير أسلحة نووية من الجيل القادم مرة ثانية، وفي المكان نفسه في مختبر لوْس ألامُوسْ الذي يُطلق عليه (4-PF)، حيث خصص بايدن 4.6 مليارات دولار ووظف حتى الآن 17273 أمريكياً، بحسب التحقيق المنشور في مجلة «تايم» في 24 يوليو 2023 تحت عنوان: «في المختبر الذي بناه أوبنهايمر، الولايات المتحدة تبني نواة مرة ثانية للقنبلة الذرية».
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك