بقلم: عاطف الصبيحي
اتساع الدلالة من خلال المتواطئ
يفرّق الأصوليون بين المشترك والمتواطئ، وذلك أنّ «اللفظ المشترك هو اللفظ الواحد الموضوع لعدّة معانٍ وضعًا أوّلًا أمّا المتواطئ: فهو لفظ يُطلق على أشياء متغايرة ولكنها متّفقة في المعنى الذي وضع اللفظ له مثل لفظ (لون)، فالسواد لون، والبياض لون، والحمرة لون، ومثل لفظ (رجل) التي تطلق على: زيد وعمرو ومحمد ومثل لفظ (جسم) فهي تطلق على السماء والأرض، والإنسان، والحيوان، وعلى كلّ شيء له ثقل ويشغل حيّزًا».
ومِن ثَم تأتي قيمة اللفظ المتواطئ في القرآن الكريم في تحقيق اتساع المعنى؛ وذلك في دلالته على جميع أفراد جنسه بلفظ واحد؛ مما يحقّق نوعًا من الإيجاز والشمول لكثير من المعاني باللفظ نفسه، فقوله تعالى: «سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...» الحديد/1، وردَ فيه لفظ متواطئ يدلّ على العموم وهو لفظ (مَا) فإنها تعني الإنسان، والملائكة، والحيوان، والجماد... فاللفظ المتواطئ من ألفاظ العموم.
ومِن أمثلة المتواطئ لفظ: (ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) و(سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) في قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ» فاطر: 32.
فيه من الجمال والإعجاز ما فيه من الإيجاز بالإجمال المغني عن التفصيل بتعداد أنواع العصاة والستر عليهم وطيّ أحوالهم؛ حيث لا يتناسب سياق التكريم بالاصطفاء وتوريث الكتاب وحسن الجزاء مع تفصيل أحوال العصاة وتعداد مخازيهم؛ لا سيما وقد غفرها اللهُ لهم فكان جزاؤهم: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ» فاطر: 33، فمعلوم أنّ كلّ واحد من هذه الأقسام يتناول أصنافًا كثيرة، الظّالم لنفسه يتناول المضيّع للواجبات والمنتهك للمحرّمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرّمات، والسّابق يدخل فيه من سبق فتقرّب بالحسنات مع الواجبات.
فهذه الألفاظ هي من المتواطئ؛ لأنّ كلًّا من الظالم لنفسه والسابق بالخيرات - وكذلك المقتصد - يندرج تحته صور من الأعمال يجمعها ذلك اللفظ الشامل لها، الذي يُعَدُّ بمثابة الجنس أو النوع الذي تندرج تحته أفراده، وترجع قيمته الجمالية - في الغالب - إلى ما فيه من إيجاز بالإجمال المغني عن التفصيل بذكر أفراد ما أجمل لشيوع العلم بها.
ومن أمثلته أيضًا قوله تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» البقرة: 152، قد تضمّن الأمر بذكر اللّه تعالى، وذِكرنا إيّاه على وجوه، وقد رُوي فيه أقاويل عن السّلف، قيل فيه: (اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي)، وقيل فيه: (اذكروني بالثّناء بالنّعمة أذكركم بالثّناء بالطّاعة)، وقيل: (اذكروني بالشّكر أذكركم بالثّواب)، وقيل فيه: (اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة)، واللّفظ محتمل لهذه المعاني، وجميعها مرادُ اللّه تعالى لشمول اللّفظ واحتماله إيّاه.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون الجميع مراد اللّه تعالى بلفظ واحد؛ لأنّه لفظ مشترك لمعانٍ مختلفة، قيل له: ليس كذلك؛ لأنّ جميع وجوه الذِّكْر على اختلافها راجعة إلى معنى واحد، فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذّكر، والأخوّة تتناول الإخوة المتفرّقين، وكذلك الشركة ونحوها، وإن وقع على معانٍ مختلفة فإنّ الوجه الذي سُمّي به الجميع معنى واحد.
وكذلك ذِكر اللّه تعالى لمّا كان المعنى فيه طاعته، والطّاعة تارة بالذِّكر باللّسان، وتارة بالعمل بالجوارح، وتارة باعتقاد القلب، وتارة بالفكر في دلائله وحججه، وتارة في عظمته، وتارة بدعائه ومسألته، جاز إرادة الجميع بلفظ واحد، كلفظ الطاعة نفسها جاز أن يراد بها جميع الطاعات على اختلافها إذا وردَ الأمر بها مطلقًا نحو قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» النساء: 59، وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النّهي، فقوله: «فَاذْكُرُونِي» قد تضمّن الأمر بسائر وجوه الذِّكْر، ومنها سائر وجوه طاعته وهو أعمّ الذّكْر، ومنها ذكره باللّسان على وجه التّعظيم والثّناء عليه والذِّكْر على وجه الشُّكر والاعتراف بنعمه. ولا شكّ أن استخدام لفظ الذِّكْر ونحوه مجملًا فيما يعرف تفصيله بالتفكّر والتأمل - ولا يرتاب في معرفته - فيه من الإيجاز واختصار الكلام ما هو بأعلى المنازل من البلاغة والفصاحة، حتى قالوا: «البلاغة الإيجاز».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك