بقلم: دكتورغريب جمعة
الحلقة الأولى
كل المؤمنين يعلمون أن خلق هذه الكائنات وعوالمها هو صنعة الله، وليس ثمة صانع سواه تبارك وتعالى. وهم يعلمون أن كل صانع مهما ضؤُل فإنه يعلم المراد المقصود من صنعته وما يكون.
فما بالك بخالق الوجود الذي علمه شامل وكامل ولا يعتريه نقصان أبدًا.
ولا ريب أن الله جلت قدرته يعلم أن بعض البشر سوف يتوجهون إليه بإرادتهم طائعين مختارين تضرعًا إليه وتقربًا منه وإخلاصًا له في العبادة وصدقًا في الدعوة إليه. وهو سبحانه يشكر لهم ذلك ويصطفيهم بنعمه ومننه وكرامته.
وهذا الاصطفاء سبق به علمه لأنه يعلم أزلاً ما يصدر عن عباده، وعلم الله لا يتخلف والتخلف محال إذ يقتضي أن ينقلب العلم جهلاً وذلك محال في حق الله.
وهو لا يتنافى مع حرية الإرادة الممنوحة لهم بل هو تأييد لها وأخذًا بها إلى الكمال والرشد.
ولو يشاء الله لهدى الناس جميعًا واصطفى العباد جميعًا وعندئذ يكون الجبر الذي لا مجال معه لحرية الإرادة التي هي أساس التكليف ومناط الثواب والعقاب .
واصطفاء الله لبعض عباده نعمه كثيرة وفضائله لا تحصى وأمجاده كبيرة. وأقرأ الآيات التالية لتعرف أثر اصطفاء المولى جلت قدرته لعباده الذين يستحقون ذلك دون سواهم:
يقول تعالى :
«إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ (33) ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٖۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ (37)».
والمعنى (بايجاز):
إن الله اختار آدم أبا البشر: خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه الجنة، وهبط منها لحكمةٍ الله يعلمها واصطفى نوحًا وجعله أول رسول بعث إلى الناس لما عبدوا الأوثان وانتقم له بإغراقهم ونجاته هو ومن اتبعه، واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء، واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران وعمران هذا هو أبو مريم وجد عيسى عليه السلام.
ذرية بعضها من بعض في الفضل و المزية فهم خيار من خيار من خيار واذكر وقت أن قالت امرأة عمران - قيل كان اسمها حَنَّة بنت قاذوذ وكانت عاقرًا لا تلد- رب إني نذرت لك ما في بطني خالصًا لوجهك ولعبادتك، لا يشتغل بشيء آخر سوى خدمة بيتك، ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر، إنك يا رب أنت السميع لكل قول ودعاء العليم بنية صاحبه، وقد كان الله سميعًا لقول امرأة عمران عليمًا بنيتها ، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكرًا كان أم أنثى، فلما وضعتها قالت متحسرة وحزينة: إني وضعتها أنثى، وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور، لأن الأنثى تحيض وتلد فلا تصلح لهذا، والله أعلم بما وضعت وبمكانتها وبأنها خير من كثير من الذكور وقد تبين ذلك بقوله تعالى: «وليس الذكر» الذي طلبت «كالانثى» الذي وضعت، بل هذه الأنثى خير مما كنت ترغبينه من الذكور.
قالت امرأة عمران: إني سميتها مريم خادمة الرب رجاء أن تكون بأمرك من العابدات، وإني أستعيذ بالله وادعوه أن يقيها هي وذريتها من الشيطان وسلطانه عليهما فاستجاب الله دعاءها.
وجعل زكريا- وكأن رجلاً معروفًا بالخلق والتقوى، و كان زوج خالتها - كافلاً وراعيًا لها حتى شبت وترعرعت، وكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها خيرًا كثيرًا وفضلاً من الرزق فيقول لها: يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب().
وهذا الاصطفاء لا يقف عند الأنبياء بل يتجاوزهم إلى ذراريهم وأبنائهم ومن ينهج منهجهم ويلتزم بطريقهم ويقف مواقفهم في الدعوة إلى الله.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك