العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الاسلامي

اصطفاء الله لبعض عباده وإكرامه لهم

الجمعة ٠٤ أغسطس ٢٠٢٣ - 02:00

بقلم‭: ‬دكتورغريب‭ ‬جمعة‭ ‬

الحلقة‭ ‬الأولى

كل‭ ‬المؤمنين‭ ‬يعلمون‭ ‬أن‭ ‬خلق‭ ‬هذه‭ ‬الكائنات‭ ‬وعوالمها‭ ‬هو‭ ‬صنعة‭ ‬الله،‭ ‬وليس‭ ‬ثمة‭ ‬صانع‭ ‬سواه‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى‭. ‬وهم‭ ‬يعلمون‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬صانع‭ ‬مهما‭ ‬ضؤُل‭ ‬فإنه‭ ‬يعلم‭ ‬المراد‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬صنعته‭ ‬وما‭ ‬يكون‭.‬

فما‭ ‬بالك‭ ‬بخالق‭ ‬الوجود‭ ‬الذي‭ ‬علمه‭ ‬شامل‭ ‬وكامل‭ ‬ولا‭ ‬يعتريه‭ ‬نقصان‭ ‬أبدًا‭.‬

ولا‭ ‬ريب‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬جلت‭ ‬قدرته‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬البشر‭ ‬سوف‭ ‬يتوجهون‭ ‬إليه‭ ‬بإرادتهم‭ ‬طائعين‭ ‬مختارين‭ ‬تضرعًا‭ ‬إليه‭ ‬وتقربًا‭ ‬منه‭ ‬وإخلاصًا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬العبادة‭ ‬وصدقًا‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬إليه‭. ‬وهو‭ ‬سبحانه‭ ‬يشكر‭ ‬لهم‭ ‬ذلك‭ ‬ويصطفيهم‭ ‬بنعمه‭ ‬ومننه‭ ‬وكرامته‭.‬

وهذا‭ ‬الاصطفاء‭ ‬سبق‭ ‬به‭ ‬علمه‭ ‬لأنه‭ ‬يعلم‭ ‬أزلاً‭ ‬ما‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬عباده،‭ ‬وعلم‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يتخلف‭ ‬والتخلف‭ ‬محال‭ ‬إذ‭ ‬يقتضي‭ ‬أن‭ ‬ينقلب‭ ‬العلم‭ ‬جهلاً‭ ‬وذلك‭ ‬محال‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الله‭.‬

وهو‭ ‬لا‭ ‬يتنافى‭ ‬مع‭ ‬حرية‭ ‬الإرادة‭ ‬الممنوحة‭ ‬لهم‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬تأييد‭ ‬لها‭ ‬وأخذًا‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الكمال‭ ‬والرشد‭.‬

ولو‭ ‬يشاء‭ ‬الله‭ ‬لهدى‭ ‬الناس‭ ‬جميعًا‭ ‬واصطفى‭ ‬العباد‭ ‬جميعًا‭ ‬وعندئذ‭ ‬يكون‭ ‬الجبر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬معه‭ ‬لحرية‭ ‬الإرادة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬التكليف‭ ‬ومناط‭ ‬الثواب‭ ‬والعقاب‭ .‬

واصطفاء‭ ‬الله‭ ‬لبعض‭ ‬عباده‭ ‬نعمه‭ ‬كثيرة‭ ‬وفضائله‭ ‬لا‭ ‬تحصى‭ ‬وأمجاده‭ ‬كبيرة‭. ‬وأقرأ‭ ‬الآيات‭ ‬التالية‭ ‬لتعرف‭ ‬أثر‭ ‬اصطفاء‭ ‬المولى‭ ‬جلت‭ ‬قدرته‭ ‬لعباده‭ ‬الذين‭ ‬يستحقون‭ ‬ذلك‭ ‬دون‭ ‬سواهم‭:‬

يقول‭ ‬تعالى‭ :‬

‮«‬إِنَّ‮ ‬ٱللَّهَ‮ ‬ٱصۡطَفَىٰٓ‭ ‬ءَادَمَ‭ ‬وَنُوحٗا‭ ‬وَءَالَ‭ ‬إِبۡرَٰهِيمَ‭ ‬وَءَالَ‭ ‬عِمۡرَٰنَ‭ ‬عَلَى‭ ‬ٱلۡعَٰلَمِينَ‮ ‬‭(‬33‭)‬‮ ‬ذُرِّيَّةَۢ‭ ‬بَعۡضُهَا‭ ‬مِنۢ‭ ‬بَعۡضٖۗ‭ ‬وَٱللَّهُ‮ ‬سَمِيعٌ‭ ‬عَلِيمٌ‮ ‬‭(‬34‭)‬‮ ‬إِذۡ‭ ‬قَالَتِ‭ ‬ٱمۡرَأَتُ‭ ‬عِمۡرَٰنَ‮ ‬رَبِّ‮ ‬إِنِّي‭ ‬نَذَرۡتُ‭ ‬لَكَ‭ ‬مَا‭ ‬فِي‭ ‬بَطۡنِي‭ ‬مُحَرَّرٗا‭ ‬فَتَقَبَّلۡ‭ ‬مِنِّيٓۖ‭ ‬إِنَّكَ‭ ‬أَنتَ‭ ‬ٱلسَّمِيعُ‭ ‬ٱلۡعَلِيمُ‮ ‬‭(‬35‭)‬‮ ‬فَلَمَّا‭ ‬وَضَعَتۡهَا‭ ‬قَالَتۡ‮ ‬رَبِّ‮ ‬إِنِّي‭ ‬وَضَعۡتُهَآ‭ ‬أُنثَىٰ‭ ‬وَٱللَّهُ‮ ‬أَعۡلَمُ‭ ‬بِمَا‭ ‬وَضَعَتۡ‭ ‬وَلَيۡسَ‭ ‬ٱلذَّكَرُ‭ ‬كَٱلۡأُنثَىٰۖ‭ ‬وَإِنِّي‭ ‬سَمَّيۡتُهَا‭ ‬مَرۡيَمَ‭ ‬وَإِنِّيٓ‭ ‬أُعِيذُهَا‭ ‬بِكَ‭ ‬وَذُرِّيَّتَهَا‭ ‬مِنَ‭ ‬ٱلشَّيۡطَٰنِ‭ ‬ٱلرَّجِيمِ‮ ‬‭(‬36‭)‬‮ ‬فَتَقَبَّلَهَا‭ ‬رَبُّهَا‭ ‬بِقَبُولٍ‭ ‬حَسَنٖ‭ ‬وَأَنۢبَتَهَا‭ ‬نَبَاتًا‭ ‬حَسَنٗا‭ ‬وَكَفَّلَهَا‭ ‬زَكَرِيَّاۖ‭ ‬كُلَّمَا‭ ‬دَخَلَ‭ ‬عَلَيۡهَا‭ ‬زَكَرِيَّا‭ ‬ٱلۡمِحۡرَابَ‭ ‬وَجَدَ‭ ‬عِندَهَا‭ ‬رِزۡقٗاۖ‭ ‬قَالَ‭ ‬يَٰمَرۡيَمُ‭ ‬أَنَّىٰ‭ ‬لَكِ‭ ‬هَٰذَاۖ‭ ‬قَالَتۡ‭ ‬هُوَ‭ ‬مِنۡ‭ ‬عِندِ‮ ‬ٱللَّهِۖ‭ ‬إِنَّ‮ ‬ٱللَّهَ‮ ‬يَرۡزُقُ‭ ‬مَن‭ ‬يَشَآءُ‭ ‬بِغَيۡرِ‭ ‬حِسَابٍ‮ ‬‭(‬37‭)‬‮»‬‭.‬

والمعنى‭ (‬بايجاز‭):‬

إن‭ ‬الله‭ ‬اختار‭ ‬آدم‭ ‬أبا‭ ‬البشر‭: ‬خلقه‭ ‬بيده،‭ ‬ونفخ‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬روحه‭ ‬وأمر‭ ‬الملائكة‭ ‬بالسجود‭ ‬له،‭ ‬وأسكنه‭ ‬الجنة،‭ ‬وهبط‭ ‬منها‭ ‬لحكمةٍ‭ ‬الله‭  ‬يعلمها‭ ‬واصطفى‭ ‬نوحًا‭ ‬وجعله‭ ‬أول‭ ‬رسول‭ ‬بعث‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬لما‭ ‬عبدوا‭ ‬الأوثان‭ ‬وانتقم‭ ‬له‭ ‬بإغراقهم‭ ‬ونجاته‭ ‬هو‭ ‬ومن‭ ‬اتبعه،‭ ‬واصطفى‭ ‬آل‭ ‬إبراهيم‭ ‬ومنهم‭ ‬سيد‭ ‬البشر‭ ‬وخاتم‭ ‬الأنبياء،‭ ‬واصطفى‭ ‬من‭ ‬ذرية‭ ‬إبراهيم‭ ‬آل‭ ‬عمران‭ ‬وعمران‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬أبو‭ ‬مريم‭ ‬وجد‭ ‬عيسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭.‬

ذرية‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬في‭ ‬الفضل‭ ‬و‭ ‬المزية‭ ‬فهم‭ ‬خيار‭ ‬من‭ ‬‮ ‬خيار‭ ‬من‭ ‬خيار‭ ‬‮ ‬واذكر‭ ‬وقت‭ ‬أن‭ ‬قالت‭ ‬امرأة‭ ‬عمران‭ - ‬قيل‭ ‬كان‭ ‬اسمها‭ ‬حَنَّة‭ ‬بنت‭ ‬قاذوذ‭ ‬وكانت‭ ‬عاقرًا‭ ‬لا‭ ‬تلد‭- ‬رب‭ ‬إني‭ ‬نذرت‭ ‬لك‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬بطني‭ ‬خالصًا‭ ‬لوجهك‭ ‬ولعبادتك،‭ ‬لا‭ ‬يشتغل‭ ‬بشيء‭ ‬آخر‭ ‬سوى‭ ‬خدمة‭ ‬بيتك،‭ ‬ودعت‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يتقبل‭ ‬منها‭ ‬هذا‭ ‬النذر،‭ ‬إنك‭ ‬يا‭ ‬رب‭ ‬أنت‭ ‬السميع‭ ‬لكل‭ ‬قول‭ ‬ودعاء‭ ‬العليم‭ ‬بنية‭ ‬صاحبه،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الله‭ ‬سميعًا‭ ‬لقول‭ ‬امرأة‭ ‬عمران‭ ‬عليمًا‭ ‬بنيتها‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تعلم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬بطنها‭ ‬أذكرًا‭ ‬‮ ‬كان‭ ‬أم‭ ‬أنثى،‭ ‬فلما‭ ‬وضعتها‭ ‬قالت‭ ‬متحسرة‭ ‬وحزينة‭: ‬إني‭ ‬وضعتها‭ ‬أنثى،‭ ‬وذلك‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يؤخذ‭ ‬لخدمة‭ ‬البيت‭ ‬إلا‭ ‬الذكور،‭ ‬لأن‭ ‬الأنثى‭ ‬تحيض‭ ‬وتلد‭ ‬فلا‭ ‬تصلح‭ ‬لهذا،‭ ‬والله‭ ‬أعلم‭ ‬بما‭ ‬وضعت‭ ‬وبمكانتها‭ ‬وبأنها‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الذكور‭ ‬وقد‭ ‬تبين‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬وليس‭ ‬الذكر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬طلبت‭ ‬‮«‬كالانثى‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬وضعت،‭ ‬بل‭ ‬هذه‭ ‬الأنثى‭ ‬خير‭ ‬مما‭ ‬كنت‭ ‬ترغبينه‭ ‬من‭ ‬الذكور‭.‬

قالت‭ ‬امرأة‭ ‬عمران‭: ‬إني‭ ‬سميتها‭ ‬مريم‭ ‬خادمة‭ ‬الرب‭ ‬رجاء‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بأمرك‭ ‬من‭ ‬العابدات،‭ ‬وإني‭ ‬أستعيذ‭ ‬بالله‭ ‬وادعوه‭ ‬أن‭ ‬يقيها‭ ‬هي‭ ‬وذريتها‭ ‬من‭ ‬الشيطان‭ ‬وسلطانه‭ ‬عليهما‭ ‬فاستجاب‭ ‬الله‭ ‬دعاءها‭.‬

وجعل‭ ‬زكريا‭- ‬وكأن‭ ‬رجلاً‭ ‬معروفًا‭ ‬بالخلق‭ ‬والتقوى،‭ ‬و‭ ‬كان‭ ‬زوج‭ ‬خالتها‭ - ‬كافلاً‭ ‬‮ ‬وراعيًا‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬شبت‭ ‬وترعرعت،‭ ‬‮ ‬وكان‭ ‬كلما‭ ‬دخل‭ ‬عليها‭ ‬المحراب‭ ‬وجد‭ ‬عندها‭ ‬خيرًا‭ ‬كثيرًا‭ ‬وفضلاً‭ ‬‮ ‬من‭ ‬الرزق‭ ‬فيقول‭ ‬لها‭: ‬يا‭ ‬مريم‭ ‬أنى‭ ‬لك‭ ‬هذا؟‭ ‬‮ ‬قالت‭:‬‮ ‬هو‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬الله‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬يرزق‭ ‬من‭ ‬يشاء‭ ‬بغير‭ ‬حساب‭(‬‭).‬

وهذا‭ ‬الاصطفاء‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬الأنبياء‭ ‬بل‭ ‬يتجاوزهم‭ ‬إلى‭ ‬ذراريهم‭ ‬وأبنائهم‭ ‬ومن‭ ‬ينهج‭ ‬منهجهم‭ ‬ويلتزم‭ ‬‮ ‬بطريقهم‭ ‬ويقف‭ ‬مواقفهم‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الله‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا