حسن علي البنفلاح
من الآيات العظيمة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم الآية رقم (143) في سورة البقرة والتي تتحدث عن أمة الوسط بالقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) ، وقد ورد في سياقها كلمتا أمةً وسطاً، وهي آية جليلة تتطرق إلى أمة الوسط، وتبرر في الحين ذاته لماذا هي أمة الوسط؟ وهل تختلف هذه الأمة عن بقية الأمم التي جاء ذكرها في الكتاب الحكيم؟ وما مواصفات هذه الأمة الوسط التي تميزها عن بقية الأمم؟ وتجعلها نموذجا ومثالا لا يضاهيه أي نموذج ومثال في الكون كله؟ والجواب في أبسط الصور والمنطق أنها مختارة من خالقها ومعطيها مزايا ومظاهر لم يعطها لغيرها من الأمم، بل جعلها أمة مفضلة، وكرّمها بمكانة عظيمة تؤهلها لإعطاء الشهادة الحقة على بقية الأمم من حيث اتباعهم الطريق القويم المستقيم الذي أراده رب العزة والجلالة لعباده بإرادته أن يسلكوه توافقا مع القاعدة الإيمانية التعبدية التي ذكرت في الآية الكريمة «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)» سورة الذاريات.
وأن العباد الذين ينضوون تحت مظلة هذه الأمة هم مكون أساسي في تكوينها ولهم بالإجماع قوام الشهادة على الأقوام الأخرى يوم القيامة إذا أنكرت هذه الأقوام تبليغ رسلهم رسالات ربهم، ويكون رسول الله محمد صل الله عليه وسلم هو الشاهد على عدالة هذه الأمة وأخيرها في عبادة رب العباد.
وقبل أن نطرح مضمون مفهوم ومؤشر ودليل الأمة الوسط لا بد لنا أن نبدأ بتعريف معنى كلمة (الأمة)، ثم تعريف كلمة (الوسط) من خلال الدلالة القرآنية الواضحة فيما يخص هاتين الكلمتين المبجلتين. فلكلمة الأمة معنى ديني، كما لها معنى اجتماعي تاريخي، ولكن المعنيان يتداخلان ويتساندان بحيث يكمل كل منهما الآخر في التكوين النفسي والتعافي للمجتمعات العربية خلال تاريخها الطويل، القديم والحديث، وقد وردت لفظة الأمة في آيات القرآن الكريم بصيغة المفرد أكثر من خمسين مرة، ومن أشهر الآيات وأعظمها «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... (110)» آل عمران، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً... (118)» هود، «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)» الأنبياء، «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ... (47) ﴾ يونس، إذا ماهي المعاني التي تحملها لفظة الأمة في القرآن؟
فإذا استعرضنا اجتهادات بعض المفسرين القدماء باختلاف توجهاتهم، يمكن تمييز خمسة أو ستة معانٍ لكلمة أمة ذكرت في بعض آيات القرآن الكريم، منها:
أولا: تعني كلمة أمة الوقت والحين كما في الآية الكريمة «وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ... (8)» هود.
ثانيا: تعني كلمة أمة الإمام الذي يعلم الخير ويهدي إلى الطريق الصحيح، كما في الآية الكريمة «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)» النحل.
ثالثا: تعني كلمة أمة الطريقة المتبعة، كما في الآية الكريمة «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)» الزخرف.
رابعا: تعني كلمة أمة: جماعة من الناس على الإطلاق، كما في الآية الكريمة «وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ... (23)» وكما في الآية الكريمة «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ... (164)» الأعراف، وهذا المعنى الأخير ينطبق على الكثير من الآيات التي وردت فيها لفظة الأمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك