الحلقة الثانية
وتأمل تاريخ السيدة مريم تجد أن الله وصفها بأنها من القانتين العابدين يقول الله تبارك وتعالى: « ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين» (التحريم:12)
ثم يصفها تعالى بأنها صديقه وليست نبية بقوله تعالى: «مَّا المَسِيحُ ابنُ مَريَمَ إِلَّا رَسُول قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ وَأُمه صِدِّيقَة?? كَانَا يَأ?كُلَانِ الطَّعَامَ انظُر كَيفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات ثُمَّ انظُر أَنَّى يُؤفَكُونَ )75)» (المائدة:75)
ولما كانت صديقة قانتة أكرمها الله بكرامات وإن كانت خارقة للعادة ولكنها ليست معجزات لأن المعجزة هي التي تأتي مصدقة لدعوى النبوة والرسالة وهي لم تدع ذلك.
ولما شاهد سيدنا زكريا ما أغدق الله عليها من كرامات ونعم كبرى امتلكه الولع والشوق والحب لله ورفع يديه إليه سبحانه عالمًا بأن مما أعطاها هذه الخوارق وأكرمها بها هو قادر على أن يمنحه الذرية على كبر سنه وعقم امرأته وقد أجاب الله دعواته وحقق رغبته تفضلاً منه تبارك وتعالى.
يقول عز من قائل: « هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَ?لِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)». (آل عمران:38/39/40/41)
والمعنى (بإيجاز):
دعا زكريا ربه أن يرزقه ولدًا صالحًا مثل مريم من ولد يعقوب عليه السلام قائلاً يا رب اعطني من عندك أولادًا طيبين لأنهم فرحة العين ومجلى القلب، إنك سميع لقول كل قائل مجيب دعوة كل دعاء صالح. فخاطبته الملائكة شفاها والمخاطب: هو جبريل عليه السلام، وذلك أثناء قيامه للصلاة يدعو الله ويصلي في المحراب.
وقالت له: إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى، مصدقًا بعيسى الذي ولد ونشأ بكلمة الله (كن) لا بالطريقة المعتادة من الولادة من أب وأم ويكون سيد قومه وزاهدًا يمنع نفسه من الشهوات ونبيًا يوحي إليه.
تعجب زكريا من هذه البشارة فقال: كيف يكون لي غلام وقد أصبحت كبير السن وامرأتي عقيم لا تلد، فأجابته الملائكة كذلك الله يفعل ما يشاء، أي مثل هذا الخلق غير المعتاد الحاصل مع امرأة عمران يفعل الله ما يشاء في الكون، فطلب زكريا من ربه أن يجعل له علامة تدل على الحمل ووجود الولد منه استعجالاً للسرور أو ليشكر تلك النعمة، فجعل الله علامة ذلك أن لا يقدر على كلام الناسُ ثلاثة أيام المتوالية إلا بالإشارة والرمز بيد أو رأس أو نحوها و أمره الله أن يذكر ربه ويكبره كثيرًا ويسبحه وينزهه عما لا يليق به طوال الوقت ولاسيما عند الصباح والمساء، والذي يدلك على أن هؤلاء المصطفين المختارين قد امتلأت نفوسهم بحب الله والتعلق به والعلم بأن ما يأتيهم به من كرامة وخير ورزق هو من عنده وحده جل جلاله لذلك أجابت السيدة مريم دون تردد حينما سألها زكريا عن مصدر الرزق الذي وجده عندها- هو من عند الله.!! ويتوالى إكرام الله للسيدة مريم فتأتيها البشرى السارة التي ترجوها كل أنثى على لسان الملائكة الكرام وتامل قوله تعالى: «إذ قالت الملآئكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحي (46)». (آل عمران:45/46)
والمعنى: (بإيجاز)
اذكر أيها النبي حين قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بمولود منك من غير أب هو الكلمة أي وجد بكلمة «كن فيكون» من الله من غير واسطة بشر اسمه المسيح عيسى ابن مريم، فهو منسوب إليك ولقب المسيح لمسحه بالبركة او بالدهن الذي يمسح به الأنبياء وهو ذو جاه في الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة وعلو الدرجة ومن المقربين إلى الله يوم القيامة.
ويكلم الناس وهو طفل صغير في المهد، (مضجع الطفل حين الرضاع) وفي الكهولة: ما بعد الثلاثين أو الأربعين إلى الشيخوخة أي يكلم الناس في الحالين بالوحي والرسالة وهو من العباد الصالحين.
ثم يحكي القرآن قولها متعجبة: «قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» (آل عمران:47)
والمعنى: قالت مريم مستبعدة وذلك بحكم العادة: كيف يكون لي ولد ولم يقربني رجل؟ فأجابها الوحي بالإلهام: مثل ذلك يخلق الله ما يشاء من العدم بمقتضى قدرته وحكمته وإذا أراد أمرًا أو شيئًا أوجده بكلمة «كن» فيكون كما أراد، وقد حقق الله البشرى التي جاءت في الآية التي مرت بك وهي قوله تعالى: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)». (التحريم:12)
أي و يضرب الله المثل بحال مريم ابنة عمران أم عيسى عليهما السلام التي صانت فرجها عن الفاحشة فكانت مثال العفة و الطهر فأمر الله جبريل أن ينفخ الروح في فرجها أوفى جيب قميصها فحملت بعيسى وصدقت بشرائع الله التي شرعها لعباده و بصحفه المنزلة على إدريس وعلى غيره وبكتبه المنزلة عن الأنبياء وهي التوراة والإنجيل وكانت من القوم المطيعين لربهم حيث كان أهلها أهل بيت صلاح وطاعه ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربهم أي كانت من القوم القانتين في عبادتها وحال دينها وقوله تعالى «من روحنا» إضافة مخلوقة إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول بيت الله وناقة الله كذلك الروح والجنس كله هو روح الله.
وهنا لفته بلاغية تدله على بلاغة القرآن وأنه تنزيل رب العالمين حيث قال في حال زكريا «كذلك يفعل الله ما يشاء» وفي حال مريم «كذلك يخلق الله ما يشاء» وذلك للإشارة إلى أن وجود ولد من شيخين عجوزين ليس كإيجاد ولد من أم فقط بلا أب فكان الخلق والإبداع أنسب بعيسى عليه السلام.
وبعد..
فهذا غيض من فيض عن اصطفاء الله لبعض عباده وإكرامه لهم .
نسأل الله أن يوفقنا للسير على درب هؤلاء المصطفين الأخيار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك