ما سأقوله عن الذكاء الاصطناعي وتحقّقاته في المجالات الثقافيّة والإبداعيّة فيما يتعلق بالكتابات الإبداعيّة والثقافية العربيّة على اختلافها بما في ذلك السَّرديات Narratives)) سيكون في حيِّز التوقعات والاحتمالات المستقبليّة؛ لأننا لا نزال طارئين على مثل هذه التحقّقات في المنطقة العربيّة، وخاصة عندما أتحدث عن الثقافة والإبداع. منذ أكثر من عقد كان الحديث عن الإبداع الرقمي العربي (مسرح، رواية وغيرهما)، ومع ذلك لا يزال مثل هذا الإبداع ضئيلاً وشحيحًا مقارنة بالإبداع الغربي في مثل هذه الحقول الكتابية الإبداعيّة. وفي تصوري لن يستطيع الذكاء الاصطناعي الحلول محلّ العقل البشري المبدع مطلقًا، ولا أن يمتلك الحساسية الإبداعيّة ولا الذكاء العاطفي؛ فنحن نستطيع توظيفه في مجال التحرير والتصحيح الكتابي، ونستطيع توظيفه في مجال الميتافيرسmeta verse والسَّرديات الكبرى، ونستطيع كذلك توظيفه فيnarrative campaigns، وهي الحملات السردية الداعمة لخطاب التسامح الثقافي ونبذ خطابات الكراهية والتطرف في العالم كلّه، ولكن عندما نتحدث عن المتخيلات السٍّردية الإبداعية الفارقة فلايزال الطريق طويلاً لتحققاته الإلكترونية.
يستخدم حاليًا تطبيق chatgpt)) في إنتاج الكلمات المفتاحية، والبحث عن الموضوعات الكتابيّة، وإنتاج العناوين، ولكن ستبقى حدود الإبداع ضيقة نوعا ما مقارنة الحدود اللانهائية للإبداع البشري، كما أنَّ حدود كتابات الذكاء الاصطناعي في تناول الإشكاليات الدينيّة والاجتماعية وغيرها ستبقى محدودة بحدود حريات الشركات المطوِّرة. ولا شك أنَّ الذكاء الاصطناعي سينتج معه أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وحقوق الملكيات الفكرية والجماعية، وحدود الانتحال والسرقات الفكرية والإبداعية في كتابات تكنولوجية عابرة للحدود والقارات والأزمنة!
سأورد في سياق حديثي عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تأثر الرواية الجديدة به في رواية «كلارا والشمس» للروائي البريطاني كازو إيشيغورو Kazuo Ishiguro (1954)، هو روائيّ بريطانيّ من أصل يابانيّ، حائز على جائزة نوبل في الآداب في العام 2017 وقد استوحى موضوعات الذكاء الاصطناعي في بعض رواياته. وقد جاء في بيان جائزة نوبل لتبرير فوزه «لقد كشفت روايات كازو إيشيغورو المشحونة بالعواطف عن الهاوية الكامنة تحت شعورنا الوهمي بالتواصل مع العالم». وتنتمي روايته «كلارا والشمس» Klara and The Sun(2021) إلى روايات الخيال العلمي الصادر عن أدب الديستوبيا Dystopia (أدب المدن الفاسدة والمجتمعات التخيلية الفاسدة وغير المرغوب فيها). وتشتغل هذه الرواية على سرديات مضادة لاحتمالات سيطرة الروبوتات والآلات الذكية على الإنسان وتحكمها بمستقبل البشرية كما هو حال بعض روايات الخيال العلمي الصادرة عن هذه الاستباقات الزمنية. ولا تندرج هذه الرواية كذلك ضمن قانون الروائيّ الأمريكيّ إسحاق أسيموف Isaac Asimov في روايته «التملص»، 1942، التي صاغ فيها ضوابط برمجة الروبوتات الآلية في علاقتها بالمجتمعات البشرية، وهذه القوانين هي: لا يجوز لآلي إيذاء بشري أو السكوت عمَّا قد يسببه من أذى له، ويجب على الآلي إطاعة أوامر البشر إلا إن تعارضت مع القانون الأول، ويجب على الآلي المحافظة على بقائه طالما لا يتعارض ذلك مع القانونين الأول والثاني، ولا ينبغي لأيّ روبوت أن يؤذي الإنسانيّة، أو أن يسمح لها بإيذاء نفسها.
تصدر رواية «كلارا والشَّمس» عن مضامين إنسانية عميقة جدًا في تأمُّل معاني «الإنسانية» الحقيقية؛ فكلارا الصديق الاصطناعي الذي يستمد طاقته من الشمس تقدم العون والمساعدة والحماية لجوزي الفتاة العاجزة، وتساعدها على الشِّفاء التام بتعريضها للشَّمس. وبعد أن تستعيد الفتاة المريضة عافيتها ينتهي الأمر بكلارا إلى أن تُوضع في مخزن البيت المظلم!
ويقدم لنا كازو إيشيغورو على امتداد صفحات هذه الرواية سردًا بضمير المتكلم على لسان الصديق الاصطناعي كلارا، وهي في محطاتها الزمنية الثلاث: في المتجر (قبل الاقتناء) وهي تتلقى التحذيرات من سلوك البشر، ثمَّ بعد اقتنائها ومرحلة الصداقة العميقة مع جوزي، ثمَّ بعد قذفها في المخزن لتفقد حياتها في ابتعادها عن الطاقة المحرِّكة لها(الشَّمس). إنَّ ثمَّة أسئلة فلسفيّة كبرى وراء هذا السَّرد الحكائي المبسط؛ وهي أسئلة عن: الإنسانية، والتواصل مع العالم، والحب، والحياة، والصداقة، و(الاستعباد المضاد)؛ أيّ استعباد الإنسان المستقبلي لأجهزة الذكاء الاصطناعي، واستشراف المستقبل. لقد صنَّفت مجلة (الإيكونوميست) هذه الرواية ضمن قائمة الروايات الأكثر مبيعًا وتأثيرًا في 2021. إنَّ هذه الرواية من الروايات الاستثنائية ذات المعاني الفلسفيّة العميقة التي تعيد صياغة الإنسان العالم من حوله! إنَّها رواية عن حقيقة تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة وعن سرديات الذكاء الاصطناعي في مضامينها وتحققاتها الممكنة.
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك