تتفق البشرية على أن الشمس مصدر الضوء للأرض، ولكن هذه الشمس قد تتغير في عيون واحساس بعض البشر، فلا يرونها بمثل ما نراها، بل يذهبون على انها ظلام دامس وخوف مسكون بالوجع.
هكذا أدرك بعض الشعراء، إن الزمن في حكاية الشمس موجع ومؤلم، لأنهم ينظرون إلى الشمس ليس من خلال جمال قلوبهم بل من خلال ذلك الخوف الذي يتنفس بداخلهم، فيعبرون عنه اي الضوء، بإنه عالم من الظلام والحزن والكآبة.
قد يكون هذا الإحساس نتاج إدراك الشاعر المعاصر، بأن زمنه هو الزمن القاسي، أي زمن الجوع والحروب والموت المجاني، من دون أن يدرك الشاعر أن ما يحيطه أو يحس حياله ما هو الا نتاج عقله الباطن المتعب بالخوف والتردد على كسر هذا الألم والخروج لضوء الشمس بقوة متحدياً ألمه وصراعاته التي لا تهدأ في ظل عين باكية وقلب مريض!
هذه الظاهرة بارزة في الكثير من قصائد الشعراء المعاصرين، وإن كانت هي في الشعر القديم موجودة لكنها أقل مما هي عليه اليوم.
لا يختلف احد من النقاد على أن هذا الخوف والكآبة الشديدة عند الشعراء المعاصرين «هي نتاج شدة قضايا الواقع المتأزم التي توالت على الشاعر منذ الخمسينيات، وأكثرها لوجود الأحداث السياسية الهائلة والفهم الخاطئ للمعاصرة والحداثة، كل ذلك خلق جوا حاداً من التوتر، فالكآبة تعمقت جذورها في نفسيته، وتحوّلت إلى فلسفة تشاؤمية ترى في الوجود الإنساني شراً وفي الحياة سلسلة حلقاتها من الألم الذي يفتت أجزاءها، فمظاهر الحزن تنوّعت بين الإحساس بالكآبة واليأس وبين الشعور بالغربة، والوحدة، وظاهرة الحب التي أصابها الحزن».
وترجع الدكتورة الجزائرية نجية موسى اسباب هذه الظاهرة: إلى الواقع في رؤيتها: «لقد عاش الشاعر المعاصر دائم الاحتكاك بواقعه ولم يعش في نعومة، لنا الحق في القول إنه لا يزال يعيش بين نار ذاته وطاعون واقعه أصدق تمثيل. إذ التحمت في شعره مشاكل واقعية مع الوجدان. فالحزن الذي أصاب الشاعر المعاصر لم يأت من العدم، وإنما عندما أر اد الشاعر أن يكون مخلصا لذاته ويمنحها ما أرادت من حقوقها عليه، اصطدم بالواقع وبالنظام الخارجي. من ّ هنا نقول إن الواقع وظروفه المؤلمة هي التي نتج عنها الاضطراب والحيرة والقلق، في حزن الشاعر العميق». موضحة في دراستها الاستاذة نجية موسى أن الشاعر المعاصر: يرفض ويتمرد على واقعه المتخلف والمنحط. وذلك كله من أجل حجة على عصره، يثور به ويحترق اشتياقا إلى عالم جديد.
هذه الظاهرة لا شك انها موجودة لدى الكثير من الشعراء المعاصرين ولكن تختلف باختلاف شاعر وآخر، فبعض الشعراء تكون لديهم مفردة الألم واضحة البيان ومتنوعة الحدث وآخرين تكون لديهم المفردة رهينة محبسين، لا يستطيع تطويعها والخروج من قمقمها الواحد.
هذه المفردة تقودني إلى تجربة فريدة وكثيرة الإصدارات الشعرية، لكنها تعد ضمن المفردة الواحدة وان ذهبت قليلا عما يجوسقها، تعود سريعاً الى حالتها التي جلبت عليها في الألم، الا وهي : الشاعرة المبدعة فاطمة التيتون التي تثير عندي هاجس الكتابة كلما قرأتُ لها نصاً أو مجموعة شعرية.
على مدى اكثر من عشرين عاماً ومنذ وقوفي على قصيدتها المعنونة «نجمة الخرائب» المنشورة في جريدة الأيام في التسعينيات من القرن الماضي، وصيغة الألم في مفاصل قصيدتها كما كانت وإن طرأ بعض التجديد عليها في البعد اللغوي والتكنيك الفني للنص إلا أن: مفردة الألم ظلت تراوح مكانها.
فاطمة التيتون شاعرة قديرة وذات خيال واسع تعالج ألمها بفيض من الشوق والوحدة والانتظار وإثارة هاجس الحنين بواقع متأزم ومؤلم، تنتمي إلى جيل من الشعراء المتميزين في البحرين، وقد عملت بعد تخرجها في جامعة البحرين في التسعينيات معلمة لمادة اللغة العربية. نشرت العديد من مجموعاتها الشعرية ابتداء من عام 1991مع «أنا أرسم قلبي»: «الأوقات المهجورة» (1994) وطقوس الحب (1996)، والكثير من الإصدارات وآخرها صدر عام 2022 ديوان شعر تحت عنوان: «أنين الألم – أنا وأنت والحنين» في طبعته الأولى، يحمل قصائد كتبت ما بين عام 2019 -2020.
حمل العديد من النصوص القصيرة التي أبقت فيها الشاعرة روحها الواقعة بين الألم والحنين والبحث عن الانعتاق في الخروج من طاحونة الحزن وشدة واقع الحياة التي أزمتها.
كقولها: الليل قليل النجوم كثيرُ السهر
والبدرُ قليل الحضور كثير السفر
والحديث كثير الوجع.
لا يمكن لنا أن ندخل إلى عالم فاطمة التيتون الشعري من دون أن نستعين بسراج ينير لنا خطوات ظلمة العتمة، لأن ما بين سواد الليل لا يمكن لنا في عالم التيتون الحصول على بصيص من الضوء، لأنها مفقودة ومعجونة في جرح بليغ الألم عند التيتون، فهي التي يحق لها أن تشرّع نوافذ عتمتها لتأخذنا إلى عالمها المثالي من دون أن تشعرنا بما هو موجود من الوجع والخوف في مملكتها.
ومن نص آخر تخاطب فيه الأصدقاء تقول فيه:
لا تنتظروا الأصدقاء غادروا..
النهرُ جفّ والعشاق أفلوا!
هي حالة واحدة عند فاطمة التيتون، يتقدمها الألم والضياع وفقد الأحبة وهجران الأصدقاء، وكلها تقودنا إلى حالة لا تنفصل عن أخواتها في معنى (الألم).
ومن نفس المجموعة نقف على نص رقم 11 الذي تقودنا فيه الشاعرة إلى ألم الوحدة كقولها:
عندما تكون وحيداً تلهو بك الغربان
على شاطئ الموت تُرمى، يلعنك الحصى وتأكلك الرمال
عندما تكون وحيداً لا يقرع بابك إنسان
تأكل ملحَ الأرض وتلعنك الذكريات
عندما تكون وحيداً لا يسمعك الجار
تجادل كل المرايا، تأكلك الوساوس، تطعنك الأوهام
عندما تكون وحيداً لا تسعفك الأزمان
يتبرأ منك الأدنى، يتهرب منك الأعزُّ
والشمس تهرول عنك سريعاً، ولا تعرفك الألحان
كنت وحيداً في الحب، وحيداً في الحزن، وحيداً في الأكفان.
بعد أن وقفت على بعض النصوص مما حمله ديوان الشاعرة فاطمة التيتون المعنون «انين الياسمين» يتضح لنا: أن الشاعرة مازالت في بداية حزنها الأول ولم تستطع مغادرته، ومازالت نجمة الخرائب تعيد صورتها في مجاميعها الشعرية الأخرى التي اصدرتها، وآخرها ما اشرت إليه في «أنين الياسمين»، الواقع في ألم الأمس وفي طاحونة من القلق والخوف والوحدة والضياع بين ظلمة النفس وعدم القدرة عن كسر هذا التابو المحزن في عالمها الشعري وأن تقدم الحب لأنه يبقى أسيراً بين المها والشعور بالوحدة.
وأرى أن هذه الحالة من الألم وإن تشابكت مع ما يحرك الشاعر من حنين إلا أن الألم مسيطر على الشاعرة وأن بكاء حالات عند تقلبات النفس هو نتاج رؤية الشاعرة للعالم من منظور ذلك الألم المعتم، المشحون بالخوف والوجع.
يبقى أن اقول: إن اللغة في مجموعتها الأخيرة «أنين الياسمين» اكثر مطواعاً وارق بوحاً لولا بقاء الشاعرة على مفردات الغياب والألم والوجع والموت والضياع، والابتعاد، هذه المفردات كلها اجتمعت في عالم التيتون الشعري، فظلت حالتها النفسية تعيد وجعها وتخنق كل أمل جديد في عالمها الإنساني، عالمها الصو صيلوجي، الذي أبقى الشاعرة ضمن سلوك طغى عليها الخوف والتردد والفقد وشدة الحزن، مبقياً فاطمة التيتون كشاعرة متفردة في عالمها مختلفة عن نهج الكثير من الشعراء البحرينيين والعرب، ولا يمكن لنا كسر هذا الألم في عالم التيتون من دون أن تكون للشاعرة القدرة على استشراف العالم برؤية مختلفة، بعيدة عن الشعور بالوحدة والانطواء في عالم الخوف والتردد.
فجمال المفردة عن التيتون جمال أفقده الحزن وأضاع ملامحه في ظل غياب مفردة الفرح والشعور بالانتماء إلى الحب على أنه حب من دون خداع ومن دون ربطه بألوان السواد المعتم للنفس.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك