العدد : ١٦٩٩٠ - السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٩٠ - السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

نظرية بريجنسكي وإسقاطات الشطرنج في السياسة العالمية

بقلم: عمر حلمي {

الاثنين ١٤ أغسطس ٢٠٢٣ - 02:00

مستشار‭ ‬الامن‭ ‬القومي‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬زبجنيو‭ ‬بريجنسكي،‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬راسمي‭ ‬السياسة‭ ‬الجيواستراتيجية‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬جيمي‭ ‬كارتر،‭ ‬وترك‭ ‬بصمات‭ ‬مهمة‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬ومن‭ ‬خارجها‭. ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬اللامعة‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الاستشراف‭ ‬والابصار‭ ‬لحماية‭ ‬الدور‭ ‬الأمريكي‭ ‬المركزي‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬السياسية‭ ‬العالمية‭.‬

ورغم‭ ‬الفارق‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر،‭ ‬رئيس‭ ‬ذات‭ ‬الجهاز،‭ ‬ووزير‭ ‬خارجية‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬زمن‭ ‬الرئيسين‭ ‬نيكسون‭ ‬وفورد،‭ ‬فإنهما‭ ‬يتمتعان‭ ‬بخصال‭ ‬متقاربة‭ ‬في‭ ‬الدهاء‭ ‬السياسي،‭ ‬وفي‭ ‬رسم‭ ‬مشاريع‭ ‬للهندسة‭ ‬السياسية،‭ ‬واشتقاق‭ ‬مبادئ‭ ‬ومرتكزات‭ ‬الجيواستراتيجيا‭ ‬والجيوبوليتكا‭ ‬للمحافظة‭ ‬على‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

بريجنسكي‭ ‬كتب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المؤلفات،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬كتابه‭ ‬الهام‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬رقعة‭ ‬الشطرنج‭ ‬الكبرى‭ ‬‭ ‬الأولوية‭ ‬الأمريكية‭ ‬ومتطلباتها‭ ‬الجيواستراتيجية‮»‬‭ ‬بالترجمة‭ ‬العربية‭ ‬الصادرة‭ ‬عام‭ ‬2015‭ ‬الذي‭ ‬أتيح‭ ‬لي‭ ‬قراءته‭ ‬مؤخرا،‭ ‬وحرص‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فصوله‭ ‬السبعة‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬لعبة‭ ‬شطرنج‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬العالم،‭ ‬وان‭ ‬تركزت‭ ‬لعبته‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الأوراسيا،‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره،‭ ‬وهي‭ ‬صحيحة‭ ‬100%‭ ‬المنطقة‭ ‬الأهم‭ ‬عالميا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬الجغرافيا‭ ‬وتعداد‭ ‬السكان‭ ‬والثروات‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬التي‭ ‬تختزنها،‭ ‬وحجم‭ ‬ودور‭ ‬الأقطاب‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية‭ ‬المتركزة‭ ‬فيها،‭ ‬ودورها‭ ‬التاريخي‭ ‬والآني‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬ملامح‭ ‬المشهد‭ ‬العالمي‭.‬

انطلق‭ ‬مستشار‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬بقراءته‭ ‬للتحولات‭ ‬الدراماتيكية‭ ‬من‭ ‬مطلع‭ ‬التسعينيات‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬ومنظومته‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وسعى‭ ‬لاستشراف‭ ‬خارطة‭ ‬التحولات‭ ‬العالمية،‭ ‬ومكانة‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬العالمية،‭ ‬وبروز‭ ‬دور‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬تسيد‭ ‬العالم،‭ ‬والتطورات‭ ‬اللاحقة‭ ‬الحاملة‭ ‬في‭ ‬ثناياها‭ ‬صعود‭ ‬منظومة‭ ‬عالمية‭ ‬جديدة،‭ ‬وحرص‭ ‬بريجنسكي‭ ‬وهو‭ ‬يحرك‭ ‬أحجار‭ ‬لعبة‭ ‬الشطرنج،‭ ‬ان‭ ‬يبقي‭ ‬المكانة‭ ‬المركزية‭ ‬بيد‭ ‬الملك‭ ‬الأمريكي‭.‬

وقبل‭ ‬ان‭ ‬يجول‭ ‬الكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأطراف‭ ‬المركزية‭ ‬والفرعية‭ ‬في‭ ‬الأوراسيا،‭ ‬منذ‭ ‬الكلمة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬للكتاب‭ ‬المهم،‭ ‬حدد‭ ‬أهمية‭ ‬الأوراسية‭ ‬عالميا،‭ ‬عندما‭ ‬كتب‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬منذ‭ ‬بدأت‭ ‬القارات‭ ‬بالتفاعل‭ ‬سياسيا‭ ‬قبل‭ ‬حوالي‭ ‬خمسمائة‭ ‬سنة،‭ ‬كانت‭ ‬أوراسيا‭ (‬يستخدم‭ ‬المؤلف‭ ‬تعبير‭ ‬اوراسيا‭ ‬في‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬وآسيا‭ ‬اللتين‭ ‬تقوم‭ ‬اطروحته‭ ‬على‭ ‬اعتبارهما‭ ‬قارة‭ ‬واحدة‭) ‬مركز‭ ‬النفوذ‭ ‬العالمي،‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬مختلفة،‭ ‬وبطرق‭ ‬مختلفة‭ ‬اخترقت‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬تقطن‭ ‬أوراسيا‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬المركز‭ ‬العالمي‭ ‬اهتز،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬ذاته‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬صاحب‭ ‬الكتاب‭ ‬بالقول‭ ‬‮«‬شكل‭ ‬انهزام‭ ‬وانهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬الخطوة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬الارتقاء‭ ‬السريع‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬تلك‭ ‬القوة‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬النصف‭ ‬الغربي‭ ‬للعالم‭ ‬لتصبح‭ ‬القوة‭ ‬العالمية‭ ‬الوحيدة‭ ‬والأولى‮»‬‭.‬

ورغم‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬الدراماتيكي‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬الشطرنج‭ ‬العالمية،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأمريكا‭ ‬ولا‭ ‬لغيرها‭ ‬تجاوز‭ ‬الأهمية‭ ‬الجيوبولتيكية‭ ‬لأوراسيا‭ ‬عالميا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عمقه‭ ‬بريجنسكي‭ ‬‮«‬الا‭ ‬ان‭ ‬اوراسيا‭ ‬تحتفظ‭ ‬بأهميتها‭ ‬الجيوبولتيكية،‭ ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬طرفها‭ ‬الغربي‭ (‬أوروبا‭) ‬ما‭ ‬زال‭ ‬موطنا‭ ‬لجزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية،‭ ‬انما‭ ‬يعود‭ ‬أيضا‭ ‬إلى‭ ‬ان‭ ‬الطرف‭ ‬الشرقي‭ (‬آسيا‭) ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬مؤخرا‭ ‬مركزا‭ ‬حيويا‭ ‬للنمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والتأثير‭ ‬السياسي‭ ‬الصاعد‮»‬‭.‬

ويخلص‭ ‬إلى‭ ‬تنبيه‭ ‬واشنطن‭ ‬بضرورة‭ ‬إدارة‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬اوراسيا‭ ‬للحؤول‭ ‬دون‭ ‬صعود‭ ‬قوة‭ ‬عالمية‭ ‬مسيطرة‭ ‬جديدة،‭ ‬وحماية‭ ‬المكانة‭ ‬الأمريكية‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توزيع‭ ‬الأدوار‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬مجتمعة‭ ‬ومنفردة،‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬من‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬ستتعامل‭ ‬بها‭ ‬أمريكا‭ ‬المنشغلة‭ ‬بشؤون‭ ‬العالم‭ ‬مع‭ ‬مجمل‭ ‬علاقات‭ ‬القوة‭ ‬الاوراسية‭ ‬المركبة‭ ‬‭ ‬وخصوصا‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬ستحول‭ ‬دون‭ ‬ظهور‭ ‬قوة‭ ‬اوراسية‭ ‬مسيطرة‭ ‬ومناهضة‭ ‬لها،‭ ‬تظل‭ ‬مهمة‭ ‬جدا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لقدرة‭ ‬امريكا‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬السيادة‭ ‬العالمية‮»‬‭.‬

شكلت‭ ‬الجمل‭ ‬السابقة‭ ‬الناظم‭ ‬الأساسي‭ ‬لبناء‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب،‭ ‬فحاول‭ ‬الانتقاص‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭. ‬رغم‭ ‬انه‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬إغفال‭ ‬أهميتها‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية،‭ ‬وانما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬أكبر‭ ‬مساحة‭ ‬عالميا،‭ ‬ومن‭ ‬امتلاكها‭ ‬الثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬من‭ ‬غاز‭ ‬ونفط‭ ‬وزراعة،‭ ‬الا‭ ‬انه‭ ‬قام‭ ‬بعملية‭ ‬تحريض‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تأليب‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وأذربيجان‭ ‬وتركمانستان‭ ‬وأوزباكستان‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬الرابطة،‭ ‬وسعى‭ ‬لتقزيم‭ ‬دورها‭.‬

وفي‭ ‬السياق‭ ‬رغم‭ ‬اقراره‭ ‬المبدئي‭ ‬بصعود‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬مكانة‭ ‬متقدمة‭ ‬عالميا،‭ ‬فإنه‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬حصر‭ ‬مكانتها‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬في‭ ‬النطاق‭ ‬الإقليمي‭ ‬الشرق‭ ‬آسيوي‭ ‬الأقصى،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أعطى‭ ‬اليابان‭ ‬حليفة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬المكانة‭ ‬الدولية،‭ ‬مع‭ ‬انه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬ان‭ ‬إمكانيات‭ ‬اليابان‭ ‬الاقتصادية‭ ‬على‭ ‬أهميتها،‭ ‬تبقى‭ ‬محدودة‭ ‬بالقياس‭ ‬للصين‭ ‬الشعبية‭ ‬ولروسيا‭ ‬الاتحادية،‭ ‬ويتحدث‭ ‬بإسهاب‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬والتعاون‭ ‬بين‭ ‬أقطاب‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬ولكنه‭ ‬بانتظام‭ ‬يؤكد،‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الأقطاب،‭ ‬إن‭ ‬أرادت‭ ‬التعاون‭ ‬فعليها‭ ‬الحجيج‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وهو‭ ‬يقصد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬واليابان‭ ‬وكوريا‭ ‬الجنوبية‭.‬

بالنتيجة‭ ‬ورغم‭ ‬حرصه‭ ‬على‭ ‬الأهمية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬لدور‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬يعترف‭ ‬ان‭ ‬العالم‭ ‬آخذ‭ ‬بالتحول‭ ‬تدريجيا‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬متعدد‭ ‬القطبية‭. ‬ولا‭ ‬يمكنني‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أعترف‭ ‬بأن‭ ‬الكتاب‭ ‬مهم‭ ‬جدا،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الاختلاف‭ ‬أو‭ ‬الاتفاق‭ ‬مع‭ ‬آراء‭ ‬ونظريات‭ ‬زبجنيو‭ ‬بريجنسكي‭.‬

{‭ ‬كاتب‭ ‬من‭ ‬فلسطين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا