السفير د. عبدالله الأشعل
التحكيم أقدم من القضاء حيث مارسته المجتمعات القديمة والعشائرية والقبلية، وكان المحكم يتسم بصفات معينة أهمها أن يكون أكبر سنا وأن يكون مشهودا له بالعقل والعدل والنزاهة وحسن الخلق. وعندما نشأت الدول استبدلت التحكيم بالقضاء الثابت الدائم وأصبحت هناك محاكم ثابتة وقضاة يجلسون في هذه المحاكم وقوانين بالإجراءات خاصة بالمحاكمات أمام هذه الدوائر القضائية وأصبح القضاء علما والتحكيم علما آخر وأصبح الخيار بين الطرفين، ولكن ليست كل القضايا مؤهلة للعرض على التحكيم بل إن كل القضايا كان يجب أن تعرض على القضاء. وعندما ظهر الإسلام وانتشر واقيمت دولة المدينة كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القاضي الأول، ولذلك لم يكن هناك فرق بين التحكيم والقضاء مصداقا لقوله تعالى: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما» (المائدة-65) مع ملاحظة انني اميل الى التفسير الموسع وهو ان سنة الرسول بعد وفاته اولى بالاتباع مصداقا لقول الرسول الكريم في حجة الوداع «لقد تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي».
ثم أصبح التحكيم مفضلا عند العرب مصداقا للقول المشهور القضاء يورث العداوة والبغضاء ولا يزال هذا المثل سائغا في الدول المتخلفة، بينما القضاء والاحتكام إلى القانون صار من سمات الدول المتقدمة ثم أصبح التحكيم كعلم من وسائل تسوية المنازعات التي يطلق عليها التسوية الودية بخلاف التسوية القضائية للمشكلات الدولية والتي تشمل أيضا التحكيم، فليس كل موضوع للنزاع صالحا للتحكيم فاتسعت دائرة الموضوعات التي تعرض على التحكيم حتى صار التحكيم بديلا للقضاء.
وفي القرآن الكريم ذكر التحكيم أيضا بمعنى فريد حرصا على تماسك الأسرة كوسيلة لتوقي الخلافات والمنازعات والشقاق بين الزوجين فنصت الآية الكريمة «35 من سورة النساء» على أنه إذا خاف أهل الزوجين الشقاق بين الزوجين يلجؤون إلى التحكيم الاستباقي وذلك بأن يبعث كل طرف حكما من جانبه وليس هناك محكمة تحكيم أو رئيس لهذه المحكمة، وإنما يعتبر المحكم في هذه الحالة ممثلا لوجهة نظر الطرف الذي يمثله، ولذلك يكون منحازا لهذا الطرف لا يعصمه من هذا الانحياز إلا رغبة الطرفين الزوج والزوجة في تسوية الشقاق. وقد أشار القرآن الكريم إلى أن المحكمين وهما ممثلان لطرفي النزاع الذي تتجمع رياحه ونذره قبل أن ينشأ بالفعل والعمل على تبديد كل العوامل التي تؤدي إلى نشأة النزاع، وهذه صورة خاصة في القرآن الكريم محصورة فقط في الأمور الزوجية ولا تمتد إلى غيرها، والحكم يختلف عن المحكم فالحكم لا بد أن يكون مدركا لقضية الطرف الذي يمثله، وأن يكون بطبعه منحازا لهذا الطرف، لكن ان يتوافر لديه النية في التوفيق لقوله تعالى: «إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما». والآية تشير في قسمها الاول إلى الزوج والزوجة والحكمين جميعا اما المستفيدان من المسعي الزوج والزوجة، ولكن إذا اراد الاثنان الاصلاح وفق الله الحكمين إلى الإصلاح، وإن أرادا غير ذلك يكون مسعاهما تسجيلا للمحاولة، ولكن هذه المحاولة لا تمنع نشوب النزاع مادامت أسبابه قائمة.
على أن القرآن الكريم لا يمنع امتداد مثل هذه المحاولات الودية إلى الانزعة حتى التجارية لأن توسيط أطراف النزاع لوسطاء يتمتعون بهذه الخصال لا بد أن يؤدى إلى تجنب النزاع قبل أن يبدأ وقد اقترحت بالنسبة إلى المستثمرين في مصر أن تنشأ لجنة يرضى عنها المستثمر والحكومة فتبدد السحب التي تتجمع وتنذر بنشأة النزاع حول الاستثمار أو حول عقد الدولة في الاستثمار ونجنب مصر مشاكل تصعيد هذا النزاع الذي يستقر أمام محكمة تحكيم دولية وتكون مصر هي المخطئة فتدفع تعويضا باهظا أثقل كاهلها وأصبح عبئا على اقتصادها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك