العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

يوسف إدريس.. والظّاهرة الفلسطينيّة!

بقلم: حسن حميد {

الاثنين ٢١ أغسطس ٢٠٢٣ - 02:00

لم‭ ‬يكن‭ ‬د‭. ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬كاتباً‭ ‬فذا‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬كاتباً‭ ‬نجماً،‭ ‬ومبدعاً‭ ‬محلّقاً،‭ ‬ورائياً‭ ‬للمستقبل،‭ ‬ومناضلاً‭ ‬صاحب‭ ‬أحلام‭ ‬ومواقف‭ ‬جسّدت‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬ابتغاه‭ ‬من‭ ‬الحياة‭.‬

لقد‭ ‬قيّضت‭ ‬لي‭ ‬المحبة،‭ ‬فذهبت‭ ‬ُإليه‭ ‬لألتقيه‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬أدبي‭ ‬حين‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬دمشق‭ ‬عام‭ ‬1986‭ ‬ضيفاً‭ ‬على‭ ‬مهرجانها‭ ‬السينمائي،‭ ‬فحظي‭ ‬بتكريم‭ ‬رسمي،‭ ‬وبتكريم‭ ‬آخر‭ ‬شعبي،‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬معانيهما‭ ‬أيّ‭ ‬من‭ ‬ضيوف‭ ‬المهرجان‭.‬

ذهبتُ‭ ‬إليه‭ ‬متهيباً‭ ‬لأمرين‭ ‬اثنين‭: ‬الأول‭ ‬‭ ‬سيرته‭ ‬الحياتية‭ ‬الباذخة‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬والنبل‭ ‬والمعاني‭ ‬الوطنية‭ ‬تجاه‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وتجاه‭ ‬القضايا‭ ‬المؤرقة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وثانيهما‭ ‬‭ ‬سيرته‭ ‬الأدبية‭ ‬المدهشة‭ ‬بجمالياتها،‭ ‬وحداثتها،‭ ‬ومغايراتها،‭ ‬وجرأته‭ ‬على‭ ‬التجريب‭ ‬واشتقاق‭ ‬الدروب‭ ‬الابداعية‭ ‬الجديدة‭ ‬وافتراعها‭.‬

جالستُه‭ ‬حوالي‭ ‬ست‭ ‬ساعات،‭ ‬كتبت‭ ‬خلالها‭ ‬حوالي‭ ‬80‭ ‬ورقة‭ ‬هي‭ ‬إجاباته‭ ‬عن‭ ‬أسئلتي،‭ ‬لأنّ‭ ‬الحوار‭ ‬رام‭ ‬وتطلع‭ ‬الى‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُعرف‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬وكتاباته‭ ‬من‭ ‬تفاصيل،‭ ‬وانتقاله‭ ‬السلس‭ ‬بين‭ ‬أجناس‭ ‬الأدب‭ ‬جميعاً،‭ ‬وكأنها،‭ ‬في‭ ‬اجتماعها،‭ ‬هي‭ ‬لعبته‭ ‬المفضلة،‭ ‬وببراعة‭ ‬ميّزته‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والمبدعين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والبلاد‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬آن؛‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬بغريب‭ ‬لأنّه،‭ ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬مشى‭ ‬في‭ ‬درب‭ ‬الأدب‭ ‬كعاشق،‭ ‬بعدما‭ ‬ضحّى‭ ‬بشغفه‭ ‬للطب‭ ‬الذي‭ ‬نذر‭ ‬حياته‭ ‬له‭.‬

موهبة‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬منذ‭ ‬بداياته،‭ ‬تجلّت‭ ‬باعتراف‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬حين‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬له‭ ‬كتابه‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬جمهورية‭ ‬فرحات‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قُرئت‭ ‬عليه‭ ‬قصصه‭ ‬الأولى«أرخص‭ ‬الليالي‮»‬،‭ ‬فصارت‭ ‬كلّ‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬ينشرها‭ ‬حدثاً‭ ‬منتظراً‭ ‬وخبراً‭ ‬طالعاً‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬المصري،‭ ‬مثلما‭ ‬صار‭ ‬انتقاله‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬المسرح،‭ ‬أو‭ ‬عالم‭ ‬الرواية‭ ‬حالاً‭ ‬لدراسة‭ ‬المضايفات‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬غمرت‭ ‬أدبه،‭ ‬ولهذا‭ ‬قال‭ ‬نقّاد‭ ‬أدبه‭ ‬إنه‭ ‬كاتب‭ ‬مجدّد،‭ ‬يكتب‭ ‬نصوصاً‭ ‬أدبية‭ ‬لا‭ ‬تحاكي‭ ‬نصوص‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬العرب‭ ‬والعالم،‭ ‬نصوصا‭ ‬عرفت‭ ‬ببصمتها‭ ‬المصرية‭ ‬وهي‭ ‬تعالج‭ ‬أصعب‭ ‬القضايا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وأخطرها،‭ ‬نصوصا‭ ‬لا‭ ‬تغادر‭ ‬معطيات‭ ‬العقل،‭ ‬ولا‭ ‬تفرط‭ ‬بمقتضيات‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬ومتطلباتهما،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تحيّد‭ ‬موضوعاً‭ ‬يورّث‭ ‬المجتمع‭ ‬هموماً‭ ‬جديدة،‭ ‬نصوص‭ ‬رامت‭ ‬التنوير،‭ ‬والارتقاء،‭ ‬ومحو‭ ‬الإحباط،‭ ‬والزيف،‭ ‬والرضا‭ ‬الكذوب‭ ‬الذي‭ ‬غلّفته‭ ‬العاداتُ‭ ‬والتقاليدُ‭ ‬بقداسة‭ ‬هشّة‭.‬

ولأنّ‭ ‬أدب‭ ‬د‭. ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬درس‭ ‬كثيراً،‭ ‬فلن‭ ‬أتلبّث‭ ‬عنده‭ ‬هنا،‭ ‬كي‭ ‬أمضي‭ ‬إلى‭ ‬مواقفه،‭ ‬وما‭ ‬أبداها‭ ‬وهي‭ ‬تعيش‭ ‬هموم‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬الحي،‭ ‬فقد‭ ‬غادر‭ ‬مصر‭ ‬عام‭ ‬1954‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر‭ ‬كي‭ ‬يقاتل‭ ‬الفرنسيين‭ ‬هناك‭ ‬مع‭ ‬ثوّار‭ ‬الجزائر‭ ‬في‭ ‬جبهة‭ ‬التحرير،‭ ‬وقد‭ ‬خاض‭ ‬معارك‭ ‬عدة،‭ ‬وأصيب‭ ‬بجروح‭ ‬عدة،‭ ‬وبقيت‭ ‬بعض‭ ‬شظايا‭ ‬الرصاص‭ ‬في‭ ‬جسده،‭ ‬وكان‭ ‬سعيداً‭ ‬بها‭ ‬لأنها‭ ‬سترافقه‭ ‬الى‭ ‬قبره،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬حدث‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬ومن‭ ‬القاهرة‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬بورسعيد‭ ‬والإسماعيلية‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬المقاومة،‭ ‬وكتب‭ ‬عنها‭ ‬قصصاً‭ ‬باقيات‭!‬

أما‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬فقد‭ ‬عاشها‭ ‬د‭. ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬بكلّ‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬ليس‭ ‬عبر‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬من‭ ‬مقالات‭ ‬في‭ ‬جريدتي‭ ‬الجمهورية‭ ‬والأهرام‭ ‬مرحباً‭ ‬بانطلاقة‭ ‬الكفاح‭ ‬المسلّح‭ ‬الفلسطيني‭ ‬عام‭ ‬1965،‭ ‬وإنما‭ ‬بالعلاقات‭ ‬والمواقف‭ ‬والسلوكيات‭ ‬التي‭ ‬عاشها،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬المصريين‭ ‬الذين‭ ‬حرصوا‭ ‬على‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬إذاعة‭ ‬فلسطين‭ ‬من‭ ‬راديو‭ ‬صوت‭ ‬العرب،‭ ‬وواحداً‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬أدباء‭ ‬مصر‭ ‬الذين‭ ‬رحّبوا‭ ‬بأدباء‭ ‬فلسطين‭ ‬وشعرائها‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬منهم‭: ‬علي‭ ‬هاشم‭ ‬رشيد،‭ ‬وهارون‭ ‬هاشم‭ ‬رشيد،‭ ‬ومعين‭ ‬بسيسو،‭ ‬ومحمود‭ ‬درويش،‭ ‬وكامل‭ ‬السوافيري،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1967‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1970،‭ ‬وبعد‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬آنذاك،‭ ‬نادى‭ ‬بضرورة‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الثورة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أيقونة‭ ‬العرب،‭ ‬وحلمهم‭ ‬الجميل‭ ‬المستند‭ ‬الى‭ ‬معاني‭ ‬الحرية‭ ‬وأشواقها‭ ‬الطفوح‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1972،‭ ‬وحين‭ ‬اغتيل‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬مرّ‭ ‬بمقاهي‭ ‬القاهرة،‭ ‬ودعا‭ ‬المثقفين‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬في‭ ‬تظاهرة‭ ‬جابت‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة‭ ‬ببعض‭ ‬اليافطات‭ ‬التي‭ ‬خُطّطت‭ ‬على‭ ‬عجل،‭ ‬وببعض‭ ‬الأعلام‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬شجباً‭ ‬وإدانة‭ ‬لاغتيال‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬وحين‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬أدب‭ ‬جديد‭ ‬يدخل‭ ‬مدونة‭ ‬العرب‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬هو‭ ‬أدب‭ ‬المقاومة‭ ‬المكتوب‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬وفي‭ ‬الشتات‭.‬

وحين‭ ‬سألته،‭ ‬في‭ ‬حواري،‭ ‬عن‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬شاعراً‭ ‬فقط،‭ ‬إنه‭ ‬ظاهرة‭ ‬إبداعية،‭ ‬شأنه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬ظواهر‭ ‬إبداعية‭ ‬فلسطينية‭ ‬أخرى،‭ ‬مثل‭: ‬جبرا‭ ‬إبراهيم‭ ‬جبرا،‭ ‬ود‭. ‬إحسان‭ ‬عباس،‭ ‬ود‭. ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬وغسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬وأنيس‭ ‬صايغ،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬مرجعية‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬الإبداعية‭ ‬ليست‭ ‬الثقافة‭ ‬والمعرفة‭ ‬والفنون‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬سيرة‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬التاريخية،‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬ظلّ‭ ‬عصياً‭ ‬على‭ ‬الاندثار‭ ‬والانحناء‭ ‬رغم‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬تعرّض‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أذيات‭ ‬مهولة‭ ‬لأنه‭ ‬شعب‭ ‬خُلق‭ ‬للعمران‭ ‬والحضارة‭ ‬والإبداع‭ ‬في‭ ‬برزخ‭ ‬حضاري‭ ‬واقع‭ ‬بين‭ ‬قارتي‭ ‬آسيا‭ ‬وإفريقيا،‭ ‬برزخ‭ ‬هو‭ ‬مرجعية‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬أشكال‭ ‬النضال‭ ‬الوطني‭ ‬والعالمي‭! ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬رحيل‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬الأديب‭ ‬المبدع‭ ‬والمناضل‭.. ‬أسمع‭ ‬صوت‭ ‬قلبي‭ ‬يناديه‭.‬

{‭ ‬كاتب‭ ‬وروائي‭ ‬من‭ ‬فلسطين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا