بقلم: عاطف الصبيحي
من أهم السمات الدلالية في القرآن الكريم اتساع دلالة ألفاظ القرآن وتراكيبه، فدلالات الألفاظ والتراكيب القرآنية تتنوّع بتعدّد المستويات اللغوية المختلفة في نظام اللغة، واتساع المعنى ظاهرة في القرآن الكريم، تستحق الحديث حولها، ولعلّ مِن أبرز السمات الدلالية لألفاظ القرآن وتراكيبه هي اتساع دلالة تلك الألفاظ والتراكيب، ويمكننا أن نميّز هاهنا بين ما يمكن أن يسمّى بالتعدّد الحقيقي للمعنى، وما يمكن أن يسمّى بالتعدّد الشكلي؛ حيث تتعدّد أنواع الألفاظ عند اللغويين بين حقيقة ومجاز، وحقيقة لغوية وحقيقة شرعية، وما تجتمع في دلالته الحقيقتان، أو الحقيقة والمجاز، أو يكون من قَبِيل المشترك أو المتواطئ، كما يقول الأستاذ الدكتور عبد الحميد هنداوي.
أشكال الاتساع في المعنى يمكن أن تنقسم إلى: اتساع الدّلالة المعجمية، اتساع الدّلالة الصرفية، اتساع الدّلالة النحوية، وسوف نقتصر في هذا المقال على بيان اتساع المعنى في القرآن الكريم في الدلالة المعجمية وحدها حتى لا يطول بنا المقام.
إنّ رصد فكرة اتساع المعنى التي ذكرنا في القرآن تبرز أهميتها في تنبيه القارئ لهذا الكتاب الكريم للتفرقة بين معاني اللفظ الواحد التي قد يظنّ بها التعدّد والاختلاف وحقيقتها الانسجام والائتلاف، وبين تلك المعاني التي تشتمل على تعدد حقيقي يقتضي الترجيح بينها، أو اعتبارها وجوهًا معتبرة للفظ الواحد.
اللفظ المشترك: هو اللفظ الواحد الموضوع لعدّة معانٍ، وهذا اللون اللغوي واقع في كلام الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ» (التكوير-17) ، فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره وهما ضدان، هكذا ذكره صاحب (الصحاح)، ومن ذلك أيضًا كلمة (قَسْوَرَة)، و(رِيع)، و(آيَة)...إلخ، ونحو ذلك.
ومِن ثَم يمثّل اللفظ المشترك الوارد في القرآن الكريم نوعًا من اتساع المعنى؛ حيث يتّسع السياق لقبول جميع معانيه باعتبارها وجوهًا للمعنى الواحد إذا اقتضاها السياق بلا تعارض بينها، فكلمة (عَسْعَسَ) في قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ»، تأتي بمعنى الإقبال والإدبار، «عن مجاهد قوله: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ» قال: إقباله، ويقال: إدباره».
ولا شكّ أنّ كلًّا مِن إقبال الليل وإدباره ساعتان شريفتان، وآيتان عظيمتان دالّتان على قدرة الله تعالى؛ لذا فقد أقسم اللهُ بهما تنويهًا بشأنهما. وتعظيم النبي – صلى الله عليه وسلم – لهاتين الساعتين بالذِّكْر والصلاة والتسبيح ثابت بنصوص كثيرة ليس هنا محلّ ذِكْرها؛ لذا فلا يبعد أن يُراد بالقسَم كلٌّ من هاتين الساعتين الشريفتين، وسياق الكلام يساعده ولا يعارضه.
وكذلك لفظ (قَسْوَرَة) في قوله تعالى: «فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» المدثر:51، ذكر ابن جرير الاختلاف فيها؛ فمنهم من قال: الرُّماة، ومنهم من قال: هو الأسد، والسياق لا ينفي أحد المعنيين بل يحتملهما جميعًا؛ فالحُمُر بلا شك تفرّ من الرُّماة كما تفر من الأسد، فقد أثبت لها الفرار من كلّ ما يشمله اسم القسورة، ويؤيّد ذلك مجيء (قَسْوَرَة) منكرة.
ولا شك أنّ ذلك مما يزداد به المعنى جمالًا وقوّة، فهذه الحُمُر المضروبة مثلًا للكافر المُعْرِض تفرّ من كلّ مَنْ تعرّض لها لينتشلها من الكفر إلى الإيمان، فتفرّ منه أشدّ الفرار؛ إِذْ تستشعر فيه خطرًا داهمًا عليها، وكذلك هؤلاء الكافرون المعرضون يحسبون كلّ متعرّض لهم بالدعوة إلى الله خطرًا داهمًا، وشرًّا محدقًا؛ سواء بَدَا شديدًا كالأسد، أو متلطفًا كالصائد؛ وذلك لكون ما يأتي به من الهدى معارضًا أهواءهم أتم المعارضة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك