أحرص دومًا في زياراتي السياحية لمدن العالم على السياحة الثقافيّة لاستنطاق تواريخ الأمكنة والبحث عن أساطيرها التأسيسيّة الكبرى المتناثرة في الكتابات المدوَّنة وفي الطرقات وعلى ألسنة المعمرين! وهناك تلك التواريخ الثقافيّة المخبأة التي قد نجدها في سلسلة من الأساطير والحكايات الخرافيّة التي تشكّل طبقات خفية من التواريخ الثقافيّة. وفي زيارتي الأخيرة للعاصمة الاسكتلندية أدنبره كنتُ حريصة جدًا على استكمال زيارة جميع المتاحف الثقافيّة التي لم أزرها من قبل في زياراتي السابقة وفق خطة مسح ثقافي شامل بما في ذلك اقتناء أهم المصادر المكتوبة عن المدينة، وقراءتها بتمعن واختبار تلك التواريخ القديمة وممارسة غواية المتخيّل! ومن المتاحف المدهشة التي لفتت انتباهي على الرغم من صغر حجمها «متحف مدينة أدنبره»؛ وهو متحف استثنائي يضم في جنباته عددًا ضخمًا من مقتنيات أهالي أدنبره على اختلاف طبقاتهم الاجتماعيّة من العصور الوسطى إلى القرن العشرين: لوحات فنية وتماثيل وكتب وأرشيف تاريخي يسرد حكاية مدينة أدنبره من تكويناتها الأولى وصولاً إلى تشكلاتها الحديثة في نهاية القرن الثامن عشر مع تأسيس مدينة أدنبره الجديدة المتاخمة لأدنبره التاريخيّة العتيقة. ولاستكمال سرديات مدينة أدنبره بطبقاتها الثقافيّة لا بد من زيارة أحد المباني العتيقة فيها الذي يشتمل على طوابق ذات تواريخ متعددة من الطابق الأرضي الذي يعود تأسيسه إلى مرحلة القرون الوسطى إلى الطابق الأخير الذي يعود تاريخ مقتنياته إلى أوائل القرن العشرين: تاريخ متراكب الحلقات في بناء واحد! ولا بد من زيارة The Georgian House الذي يسرد حياة أسرة أرستقراطية نبيلة في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي في المدينة الجديدة، وهو تاريخ ناطق توثيقي لكل زاوية من زوايا ذلك القصر الصغير التاريخي الجميل.
وعلى مقربة من متحف «أدنبره» يقع متحف «التاريخ المحلي» أو متحف «قصة الشعب»، ويعود تأسيسه إلى القرن السادس عشر الميلادي، وهو يسرد تاريخ مدينة أدنبره الاجتماعي والثقافي وقصص السكان الشخصية من القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن العشرين. ويضم هذا المتحف كذلك بعض المتعلقات الأصلية لسكان أدنبره، وألبومات صورهم، وتسجيلات صوتية يروي من خلالها السكان جوانب من تواريخهم الشخصيّة إلى جانب عروض أفلام وثائقية تؤرِّخ سيرة هذه المدينة الجميلة التاريخيّة العتيقة باللهجات المحلية. إنَّ زيارة مثل هذه المتاحف الخاصة بسرد تواريخ المدن المركزية هي تجربة ثرية لأنها تختزل أبرز ملامح هذه المدن بتواريخها الثقافيّة إلى جانب أنها تحرِّض سكان هذه المدن على التبرع بالمقتنيات التاريخيّة ذات القيمة للمحافظة عليها من الضياع بوصفها سرديات المدينة الكبرى وتاريخها الناطق.
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك
كلية الآداب- جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك