العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

نحو بناء نظام عالمي يحقق أمن البشرية

بقلم: د. حسن نافعة

الأربعاء ٣٠ أغسطس ٢٠٢٣ - 02:00

إن‭ ‬تحقيق‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬وأنبل‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬سعى‭ ‬العالم‭ ‬لتحقيقها‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور،‭ ‬لكن‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬بذلت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الصعيد‭ ‬واجهت،‭ ‬ولا‭ ‬تزال،‭ ‬صعوبات‭ ‬جمة؛‭ ‬فعقب‭ ‬نشأة‭ ‬الدولة‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬ساد‭ ‬تصور‭ ‬مفاده‭ ‬أنَّ‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تُبنى‭ ‬على‭ ‬قاعدتي‭ ‬السيادة‭ ‬والمساواة‭ ‬بين‭ ‬الدول‭.‬

وتعني‭ ‬قاعدة‭ ‬السيادة‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬شخصية‭ ‬مستقلة‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬في‭ ‬تصرفاتها‭ ‬لأي‭ ‬سلطة‭ ‬أعلى‭ ‬منها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يحق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬مصالحها‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬تراها‭ ‬ضرورية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬المسلحة‭ ‬إذا‭ ‬لزم‭ ‬الأمر‭. ‬أما‭ ‬قاعدة‭ ‬المساواة‭ ‬فتعني‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬تتساوى‭ ‬أمام‭ ‬القانون،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬الحقوق‭ ‬نفسها،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬لديها‭ ‬الواجبات‭ ‬نفسها‭.‬

واستناداً‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية،‭ ‬ساد‭ ‬اعتقاد‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬السلام‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحقّقا‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬توازن‭ ‬القوى‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬باستطاعة‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬تحقيق‭ ‬أمنها‭ ‬اعتماداً‭ ‬على‭ ‬قواها‭ ‬الذاتية‭ ‬أو‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬تحالفاتها‭ ‬الخارجية‭.‬

وقد‭ ‬ترتب‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬بروز‭ ‬ظاهرتين‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الخطورة؛‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬اندلاع‭ ‬التنافس‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬القوية،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬الأوروبية‭ ‬منها،‭ ‬على‭ ‬تكوين‭ ‬إمبراطوريات‭ ‬استعمارية،‭ ‬والأخرى‭ ‬هي‭ ‬سباق‭ ‬متواصل‭ ‬للتسلح‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬التوازن‭ ‬المطلوبة‭ ‬لتحقيق‭ ‬السلام‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين‭ ‬هدفاً‭ ‬بعيد‭ ‬المنال،‭ ‬وأدى‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬اندلاع‭ ‬حربين‭ ‬عالميتين‭ ‬عانت‭ ‬منهما‭ ‬البشرية‭ ‬أشد‭ ‬المعاناة‭.‬

أمام‭ ‬هول‭ ‬الدمار‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬بدأ‭ ‬قادة‭ ‬العالم‭ ‬يقتنعون‭ ‬بمبدأ‭ ‬‮«‬توازن‭ ‬القوى‮»‬‭ ‬لتحقيق‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين‭ ‬تلقائياً،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬راحوا‭ ‬يفكرون‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إطار‭ ‬مؤسسي‭ ‬يستهدف‭ ‬تحقيق‭ ‬‮«‬الأمن‭ ‬الجماعي‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬نشأة‭ ‬‮«‬عصبة‭ ‬الأمم‮»‬‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

وعندما‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬الحيلولة‭ ‬دون‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬ثانية،‭ ‬حلت‭ ‬محلها‭ ‬منظمة‭ ‬‮«‬الأمم‭ ‬المتحدة‮»‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الممارسة‭ ‬الفعلية‭ ‬أثبتت‭ ‬حجم‭ ‬الصعوبات‭ ‬التي‭ ‬تكتنف‭ ‬تطبيق‭ ‬مبدأ‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭. ‬صحيح‭ ‬أنَّ‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬عصبة‭ ‬الأمم‮»‬‭ ‬شكلت‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬‮«‬مأسسة‮»‬‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬قصيرة‭ ‬انتهت‭ ‬بالفشل‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين‭.‬

وصحيح‭ ‬أيضاً‭ ‬أنَّ‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬الأمم‭ ‬المتحدة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قائمة‭ ‬ومستمرة‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬لكن‭ ‬استمراريتها‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬نجاحها‭ ‬في‭ ‬الحيلولة‭ ‬دون‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬ثالثة،‭ ‬لأن‭ ‬الواقع‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬توازن‭ ‬الرعب‭ ‬النووي‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬فاعلية‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أوصلنا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬النتيجة‭.‬

لذا،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬الأمن‭ ‬الجماعي‮»‬‭ ‬أخفق‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين،‭ ‬مثلما‭ ‬أخفق‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬توازن‭ ‬القوى‮»‬‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬ويعود‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإخفاق‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬توافر‭ ‬الشروط‭ ‬الموضوعية‭ ‬اللازمة‭ ‬لوضع‭ ‬المنظومة‭ ‬اللازمة‭ ‬لتحقيق‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬موضع‭ ‬التطبيق،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬العصبة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬فلكي‭ ‬يتحقق‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬النجاح‭ ‬ينبغي‭ ‬توافر‭ ‬ثلاثة‭ ‬شروط‭  ‬لم‭ ‬تتوافر‭ ‬مجتمعة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬التجربتين‭:‬

الشرط‭ ‬الأول‭: ‬وضوح‭ ‬المبادئ‭ ‬والقواعد‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬عليها‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬مقبولةً‭ ‬ومتفقاً‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الجميع،‭ ‬وهو‭ ‬شرط‭ ‬لم‭ ‬يتوافر‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬العصبة‭ ‬وفي‭ ‬تجربة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬فلم‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬التأسيسي‭ ‬للعصبة‭ ‬سوى‭ ‬عدد‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬لأن‭ ‬غالبية‭ ‬الأقطار‭ ‬غير‭ ‬الأوروبية‭ ‬لم‭ ‬تُدعَ‭ ‬إلى‭ ‬مؤتمر‭ ‬الصلح،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬تحت‭ ‬السيطرة‭ ‬المباشرة‭ ‬للقوى‭ ‬الاستعمارية‭ ‬الكبرى،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬تشارك‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬عهد‭ ‬العصبة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مناقشتها،‭ ‬ولم‭ ‬تصبح‭ ‬أعضاء‭ ‬في‭ ‬العصبة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭.‬

ولم‭ ‬يختلف‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬كثيراً‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬الذي‭ ‬صاغت‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬المنتصرة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬والمملكة‭ ‬المتحدة،‭ ‬قواعده‭ ‬الأساسية‭.‬

لذا،‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬عهد‭ ‬العصبة‭ ‬لم‭ ‬يجرؤ‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬تحريم‭ ‬مبدأ‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭. ‬أما‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬فقد‭ ‬تضمن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المبادئ‭ ‬التي‭ ‬اكتنفها‭ ‬غموض‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬خضوعها‭ ‬لتفسيرات‭ ‬شتى‭ ‬ومتباينة،‭ ‬مثل‭ ‬حق‭ ‬‮«‬الدفاع‭ ‬الشرعي‭ ‬عن‭ ‬النفس‮»‬‭ ‬ومبدأ‭ ‬‮«‬عدم‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الداخلية‭ ‬للدول‭ ‬الأعضاء‮»‬‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬حرم‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬أو‭ ‬التهديد‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬خلو‭ ‬الميثاق‭ ‬من‭ ‬تعريف‭ ‬محدد‭ ‬لمعنى‭ ‬‮«‬القوة‮»‬‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬اعتقاد‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬المقصود‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬‮«‬القوة‭ ‬المسلحة‮»‬‭ ‬وحدها،‭ ‬ما‭ ‬فتح‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬استخدام‭ ‬العقوبات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الفردية‭ ‬كوسيلة‭ ‬لإلحاق‭ ‬الضرر‭ ‬بالآخرين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضابط‭ ‬أو‭ ‬رادع،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬المسلحة‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬عدوانية‭ ‬تحت‭ ‬غطاء‭ ‬‮«‬حق‭ ‬الدفاع‭ ‬الشرعي‭ ‬عن‭ ‬النفس‮»‬‭.‬

الشرط‭ ‬الثاني‭: ‬وجود‭ ‬أجهزة‭ ‬وآليات‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬هذه‭ ‬المبادئ‭ ‬والقواعد‭ ‬العامة‭ ‬موضع‭ ‬التطبيق،‭ ‬وعلى‭ ‬فرض‭ ‬احترامها‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭ ‬أيضاً،‭ ‬وهو‭ ‬شرط‭ ‬لم‭ ‬يتحقق‭ ‬أيضاً‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬العصبة‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة؛‭ ‬فعندما‭ ‬كانت‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬العصبة،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى،‭ ‬تشعر‭ ‬بأن‭ ‬الخناق‭ ‬بدأ‭ ‬يضيق‭ ‬عليها‭ ‬كانت‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬الانسحاب‭ ‬منها؛‭ ‬كي‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬التهرب‭ ‬من‭ ‬تنفيذ‭ ‬الالتزامات‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬عالجت‭ ‬موضوع‭ ‬الانسحاب‭ ‬بطريقة‭ ‬سمحت‭ ‬باستقرار‭ ‬العضوية‭ ‬فيها‭ ‬ونموها‭ ‬باطراد،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ميثاقها‭ ‬احتوى‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الدول،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬حين‭ ‬قصر‭ ‬العضوية‭ ‬الدائمة‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬على‭ ‬5‭ ‬دول‭ ‬تم‭ ‬تحديدها‭ ‬بالاسم،‭ ‬هي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ (‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬حالياً‭) ‬والمملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬وفرنسا‭ ‬والصين،‭ ‬ومنح‭ ‬كلاً‭ ‬منها‭ ‬حق‭ ‬استخدام‭ ‬‮«‬الفيتو‮»‬‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضوابط،‭ ‬ما‭ ‬سمح‭ ‬لها‭ ‬بإعفاء‭ ‬نفسها،‭ ‬بل‭ ‬وإعفاء‭ ‬حلفائها‭ ‬أيضاً،‭ ‬من‭ ‬الالتزام‭ ‬الصارم‭ ‬بالقواعد‭ ‬والمبادئ‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬الميثاق‭.‬

هذا‭ ‬الأمر‭ ‬أدى‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬شل‭ ‬فاعلية‭ ‬منظومة‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬برمتها،‭ ‬وأيضاً‭ ‬إلى‭ ‬فتح‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬قيام‭ ‬أحلاف‭ ‬عسكرية،‭ ‬كحلف‭ ‬الناتو‭ ‬وحلف‭ ‬وارسو،‭ ‬شكَّلت‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬نظاماً‭ ‬بديلاً‭ ‬ومناقضاً‭ ‬لنظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬نصاً‭ ‬وروحاً‭.‬

الشرط‭ ‬الثالث‭: ‬تعاون‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬مع‭ ‬المنظمة‭ ‬الدولية‭ ‬المعنية‭ ‬بتطبيق‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬بحسن‭ ‬نية،‭ ‬ومدها‭ ‬بالموارد‭ ‬والإمكانات‭ ‬التي‭ ‬تساعدها‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بوظائفها‭ ‬الحيوية،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬منها‭ ‬بحفظ‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين،‭ ‬وهو‭ ‬شرط‭ ‬لم‭ ‬يتحقق‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬العصبة‭ ‬وفي‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬فقد‭ ‬خلا‭ ‬عهد‭ ‬العصبة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نص‭ ‬يلزم‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬بوضع‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬قواتها‭ ‬العسكرية‭ ‬تحت‭ ‬تصرف‭ ‬مجلس‭ ‬العصبة‭ ‬لاستخدامه‭ ‬عند‭ ‬الضرورة‭.‬

أما‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬فقد‭ ‬احتوى‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬أساساً‭ ‬صلباً‭ ‬لتشكيل‭ ‬جيش‭ ‬دولي‭ ‬قابل‭ ‬للاستخدام‭ ‬تحت‭ ‬سلطة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬ولجنة‭ ‬أركان‭ ‬الحرب،‭ ‬كنص‭ ‬المادة‭ ‬43‭ ‬والمادة‭ ‬45،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المواد‭ ‬لم‭ ‬تدخل‭ ‬مطلقاً‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ،‭ ‬سواء‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬بين‭ ‬المعسكرين‭ ‬الشرقي‭ ‬والغربي‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬التهميش‭ ‬الذي‭ ‬عانته‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬إبان‭ ‬فترة‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية‭ ‬المنفردة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭.‬

ولكن‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نستنتج‭ ‬مما‭ ‬تقدم‭ ‬أن‭ ‬تجربتي‭ ‬العصبة‭ ‬والأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬كانتا‭ ‬بلا‭ ‬فائدة‭ ‬تذكر‭ ‬للبشرية،‭ ‬فالواقع‭ ‬أنهما‭ ‬أسهمتا‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬شكل‭ ‬إدارة‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬وطريقتها؛‭ ‬فللمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬يصبح‭ ‬للنظام‭ ‬الدولي‭ ‬إطار‭ ‬مؤسسي‭ ‬تمثله‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬حالياً،‭ ‬ويضم‭ ‬جميع‭ ‬الدول‭ ‬الموجودة‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬تقريباً‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬لم‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تصبح‭ ‬منظمة‭ ‬عالمية‭ ‬حقاً‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬فعدد‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬دعيت‭ ‬لحضور‭ ‬مؤتمر‭ ‬سان‭ ‬فرانسيسكو‭ ‬التأسيسي‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬51‭ ‬دولة،‭ ‬فيما‭ ‬وصل‭ ‬عدد‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬حالياً‭ ‬إلى‭ ‬193‭ ‬دولة‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬تقريباً،‭ ‬وصحيح‭ ‬أن‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تعديل‭ ‬يذكر‭ ‬منذ‭ ‬تأسيس‭ ‬هذه‭ ‬المنظمة‭ ‬الدولية،‭ ‬مازال‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬ثغرات‭ ‬كثيرة‭ ‬تجعله‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬التأقلم‭ ‬مع‭ ‬التطورات‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬معالجة‭ ‬هذه‭ ‬الثغرات‭ ‬باتت‭ ‬أمراً‭ ‬ممكناً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬توافرت‭ ‬ظروف‭ ‬مواتية‭ ‬تسمح‭ ‬بعقد‭ ‬مؤتمر‭ ‬عالمي‭ ‬لمراجعة‭ ‬هذا‭ ‬الميثاق‭.‬

الدول‭ ‬الخمس‭ ‬دائمة‭ ‬العضوية‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬المستفيد‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬بقاء‭ ‬الميثاق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه،‭ ‬ستقاوم‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬لمراجعة‭ ‬الميثاق‭ ‬أو‭ ‬لصياغة‭ ‬ميثاق‭ ‬جديد،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬اهتزاز‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬أحادي‭ ‬القطبية‭ ‬والتطلع‭ ‬نحو‭ ‬بناء‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬جديد‭ ‬متعدد‭ ‬القطبية‭ ‬سيجبر‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬التحرك،‭ ‬آجلاً‭ ‬أو‭ ‬عاجلاً،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬وذلك‭ ‬لسبب‭ ‬بسيط،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬ثالثة‭ ‬كي‭ ‬يشرع‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬إطار‭ ‬مؤسسي‭ ‬جديد‭ ‬لنظام‭ ‬دولي‭ ‬يعكس‭ ‬بشكل‭ ‬أفضل‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬الراهنة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ويعالج‭ ‬مشكلات‭ ‬البيئة‭ ‬والفقر‭ ‬والتنمية‭ ‬المتوازنة‭ ‬والمستدامة‭ ‬والجريمة‭ ‬المنظمة،‭ ‬باعتبارها‭ ‬مصادر‭ ‬تهديد‭ ‬لأمن‭ ‬البشرية‭.‬

لذا،‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬مصلحة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬جديد‭ ‬متعدد‭ ‬القطبية‭ ‬أن‭ ‬توحد‭ ‬صفوفها،‭ ‬وأن‭ ‬تعكف‭ ‬منذ‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬صياغة‭ ‬ميثاق‭ ‬بديل‭ ‬لأمم‭ ‬متحدة‭ ‬جديدة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬للبشرية‭ ‬كلها،‭ ‬وليس‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬للدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬فحسب،‭ ‬وهي‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬سيتعين‭ ‬على‭ ‬أصحاب‭ ‬الهمم‭ ‬أن‭ ‬يتصدوا‭ ‬لها،‭ ‬آجلاً‭ ‬أو‭ ‬عاجلاً،‭ ‬إن‭ ‬أرادت‭ ‬البشرية‭ ‬تجنب‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬ثالثة‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬لتحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭ ‬مازال‭ ‬طويلاً‭ ‬وشاقاً،‭ ‬ودونه‭ ‬صعاب‭ ‬جمة،‭ ‬لكنه‭ ‬الطريق‭ ‬الوحيد‭ ‬المفضي‭ ‬إلى‭ ‬إنقاذ‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الحالية‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا