العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الانفجار السكاني وانهيار الخدمات في العراق

بقلم: فاروق يوسف

الخميس ٣١ أغسطس ٢٠٢٣ - 02:00

في‭ ‬عام‭ ‬1980‭ ‬غنّى‭ ‬داود‭ ‬القيسي،‭ ‬وهو‭ ‬مطرب‭ ‬سياسي‭ ‬قُتل‭ ‬أثناء‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬تبعت‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‭ ‬الكويت‭ ‬عام‭ ‬1991،‭ ‬أغنية‭ ‬ارتكز‭ ‬موضوعها‭ ‬على‭ ‬جملتها‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬اتلتعش‭ ‬مليون‭ ‬نخلة‮»‬‭ (‬13‭ ‬مليون‭ ‬نخلة‭). ‬ذلك‭ ‬الرقم‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬العراق‭ ‬يومها‭. ‬كان‭ ‬صدّام‭ ‬حسين‭ ‬هو‭ ‬زعيم‭ ‬أولئك‭ ‬الـ13‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬الذين‭ ‬أخذهم‭ ‬إلى‭ ‬الحرب‭ ‬وقاتل‭ ‬بهم‭ ‬8‭ ‬سنوات‭.‬

13‭ ‬مليون‭ ‬متعلّم‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬نجحت‭ ‬فيها‭ ‬خطط‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية‭ ‬والصناعية‭ ‬والزراعية،‭ ‬بعدما‭ ‬اكتملت‭ ‬عناصر‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬على‭ ‬أفضل‭ ‬وجه‭. ‬تسلّم‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقي‭ ‬عام‭ ‬1979‭ ‬بلداً‭ ‬نموذجياً‭. ‬شعب‭ ‬قليل‭ ‬ومتعلّم‭ ‬ولا‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬والبطالة،‭ ‬وفائض‭ ‬مالي‭ ‬قُدّر‭ ‬بـ65‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬واكتفاء‭ ‬ذاتي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الغذاء،‭ ‬وكانت‭ ‬الدولة‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬استيراد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬المواطن‭ ‬من‭ ‬الإبرة‭ ‬حتى‭ ‬السيارة،‭ ‬بحيث‭ ‬كانت‭ ‬الأسواق‭ ‬متخمة‭ ‬بالبضائع‭ ‬الاستهلاكية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬المصانع‭ ‬المحلية‭ ‬كانت‭ ‬تضخ‭ ‬بضائع‭ ‬بأرقى‭ ‬المواصفات‭ ‬العالمية‭.‬

أليس‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحلم‭ ‬به‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬نائباً‭ ‬للرئيس،‭ ‬والشخص‭ ‬الذي‭ ‬يحظى‭ ‬بشعبية‭ ‬لم‭ ‬يحظ‭ ‬بها‭ ‬أي‭ ‬زعيم‭ ‬عراقي‭ ‬سبقه؟‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬انتقاله‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬الرجل‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬كان‭ ‬خطأً‭ ‬تاريخياً‭ ‬سيدفع‭ ‬ثمنه‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬باهظاً‭. ‬قبله‭ ‬سيخسر‭ ‬حزب‭ ‬البعث‭ ‬الحاكم‭ ‬نصف‭ ‬قيادته،‭ ‬في‭ ‬مجزرة‭ ‬قاعة‭ ‬الخلد‭ ‬التي‭ ‬تُذكّر‭ ‬بما‭ ‬فعله‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بالمماليك‭.‬

في‭ ‬حرب‭ ‬الثماني‭ ‬سنوات‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ (‬1980-1988‭) ‬خسر‭ ‬العراق‭ ‬حوالي‭ ‬مليونا‭ ‬من‭ ‬شبابه‭ ‬بين‭ ‬قتيل‭ ‬وجريح‭ ‬وأسير‭ ‬ومفقود‭. ‬أما‭ ‬احتياط‭ ‬العراق‭ ‬النقدي‭ ‬الملياري‭ ‬فقد‭ ‬احترق‭ ‬وخرج‭ ‬العراق‭ ‬غارقاً‭ ‬بديون‭ ‬ضخمة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬إمكانه‭ ‬تسديدها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬بنيته‭ ‬التحتية‭ ‬أصابها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الضرر‭.‬

غير‭ ‬أنّ‭ ‬اللافت‭ ‬أنّ‭ ‬عدد‭ ‬سكانه‭ ‬قد‭ ‬ارتفع‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬16‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭ ‬بحسب‭ ‬إحصاء‭ ‬عام‭ ‬1987‭. ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقي‭ ‬بعدما‭ ‬تأكّد‭ ‬أنّ‭ ‬حربه‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬ستطول‭ ‬قد‭ ‬أصدر‭ ‬قرارات‭ ‬لتشجيع‭ ‬زيادة‭ ‬النسل‭. ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬تعدّد‭ ‬الزوجات،‭ ‬كما‭ ‬خصّص‭ ‬مكافآت‭ ‬لمَن‭ ‬يتزوج‭ ‬زوجة‭ ‬شهيد‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬قطاعي‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬لم‭ ‬يتأثرا‭ ‬كثيراً‭ ‬بالحرب،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬العراق‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬قوى‭ ‬عاملة‭ ‬في‭ ‬الزراعة‭ ‬والصناعة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬للاستعانة‭ ‬بعمالة‭ ‬عربية،‭ ‬فبدأت‭ ‬هجرة‭ ‬مصرية‭ ‬غير‭ ‬منظّمة،‭ ‬حيث‭ ‬قدّر‭ ‬عدد‭ ‬المهاجرين‭ ‬المصريين‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬3‭ ‬ملايين،‭ ‬ويصل‭ ‬البعض‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬7‭ ‬ملايين‭. ‬كانت‭ ‬العمالة‭ ‬الوافدة‭ ‬حلاً‭ ‬لمشكلات‭ ‬كثيرة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬حاجة‭ ‬الجيش‭ ‬إلى‭ ‬استدعاء‭ ‬الاحتياط‭ ‬مفتوحة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أحدث‭ ‬نقصاً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬قوة‭ ‬العمل‭ ‬العراقية،‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬تعويضه‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬كثرتهم،‭ ‬فإنّ‭ ‬المصريين‭ ‬لم‭ ‬يعانوا‭ ‬من‭ ‬التمييز‭.‬

عام‭ ‬1997‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬العراق‭ ‬19‭ ‬مليوناً‭. ‬كان‭ ‬العراق‭ ‬يومها‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الحصار‭ ‬الدولي‭ ‬الذي‭ ‬حوّله‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬رثة،‭ ‬كانت‭ ‬عبقريات‭ ‬تِقَنِيّيها‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬إنقاذ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬إنقاذه‭ ‬من‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الطاقة‭ ‬الكهربائية‭ ‬والمياه‭ ‬الصالحة‭ ‬للشرب‭. ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬العراقيين‭ ‬كانوا‭ ‬ينزلقون‭ ‬إلى‭ ‬خط‭ ‬الفقر‭ ‬وما‭ ‬تحته‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نظام‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬التصدّي‭ ‬لمشكلات‭ ‬19‭ ‬مليون‭ ‬شخص،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬اضطره‭ ‬إلى‭ ‬القبول‭ ‬ببرنامج‭ ‬النفط‭ ‬مقابل‭ ‬الغذاء‭ ‬عام‭ ‬1995‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬البرنامج‭ ‬غير‭ ‬كاف‭ ‬لشعب‭ ‬كان‭ ‬جزء‭ ‬مهما‭ ‬من‭ ‬ثروته‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬صندوق‭ ‬التعويضات‭ ‬الكويتية‭. ‬ومع‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكي‭ ‬انهارت‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬كلها،‭ ‬ولم‭ ‬تقم‭ ‬بعدها‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬لانتشالها‭ ‬عبر‭ ‬العشرين‭ ‬سنة‭ ‬الماضية‭.‬

حدث‭ ‬ذلك‭ ‬مقابل‭ ‬ارتفاع‭ ‬مجنون‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬السكان‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬عام‭ ‬2023‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬45‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭. ‬وفي‭ ‬ظلّ‭ ‬فشل‭ ‬الحكومات‭ ‬العراقية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬مشكلات‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬تحوّلت‭ ‬بغداد‭ ‬العاصمة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬مملكة‭ ‬النمل،‭ ‬بعدما‭ ‬ارتفع‭ ‬عدد‭ ‬سكانها‭ ‬من‭ ‬3‭ ‬ملايين‭ ‬إلى‭ ‬10‮ ‬ملايين‭. ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬مدن‭ ‬الجنوب‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬حروباً‭ ‬داخلية‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬شُنّت‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬في‭ ‬الموصل‭ ‬ومدن‭ ‬غرب‭ ‬العراق‭ ‬تبدو‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬مدناً‭ ‬منكوبة‭ ‬تتقاسم‭ ‬السلطة‭ ‬فيها‭ ‬الأحزاب‭ ‬والمليشيات‭ ‬التي‭ ‬ترعى‭ ‬مصالحها‭ ‬بالتقاسم‭ ‬مع‭ ‬الحكومات‭ ‬المحلية‭.‬

مع‭ ‬الزيادة‭ ‬غير‭ ‬الطبيعية‭ ‬للسكان‭ ‬عبر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬40‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬الفوضى،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يختلّ‭ ‬الميزان‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يشهد‭ ‬العراق‭ ‬حروباً،‭ ‬فكيف‭ ‬به‭ ‬وقد‭ ‬تعرّض‭ ‬لتدمير‭ ‬شامل‭ ‬ضرب‭ ‬كل‭ ‬البنى‭ ‬التحتية،‭ ‬رافقه‭ ‬تراجع‭ ‬بالثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬مقدّمها‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬نهري‭ ‬دجلة‭ ‬والفرات،‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬قطاعي‭ ‬الزراعة‭ ‬والصناعة‭ ‬بشكل‭ ‬شبه‭ ‬كامل‭.‬

طوفان‭ ‬بشري‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬فساد‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬عالمياً،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يُنتجا‭ ‬أفقاً‭ ‬مسدوداً‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقفز‭ ‬بمعدلات‭ ‬الفقر‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬السكان،‭ ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬4‭ ‬ملايين‭ ‬عاطل‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬رقماً‭ ‬حقيقياً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أضفنا‭ ‬إليه‭ ‬ملايين‭ ‬الموظفين‭ ‬ومنتسبي‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬والأمنية‭ ‬ومقاتلي‭ ‬المليشيات‭ ‬الوهميين،‭ ‬الذين‭ ‬يستنزفون‭ ‬إيرادات‭ ‬النفط‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬موجودين‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭.‬

شيء‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬اتساع‭ ‬المدى‭ ‬الذي‭ ‬تنتشر‭ ‬فيه‭ ‬العشوائيات‭ ‬التي‭ ‬تتحقق‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عودة‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬الحجري،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬وعد‭ ‬به‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬جورج‭ ‬بوش‭ ‬يوم‭ ‬قاد‭ ‬حملته‭ ‬العسكرية‭ ‬عام‭ ‬1991‭.‬

 

{‭ ‬كاتب‭ ‬عراقي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا