لا يُمكنك إنهاء رحلة الغوص الساحِرة بين سطور كتاب «مُلتقى بنت إبراهيم.. نقشٌ في ذاكرة أهالي منطقة النُّعيم» لمؤلفته الأديبة «د. جميلة الوطني» من دون شعورٍ بالامتنان العميق لأوَّل يومٍ انطلقَ فيه التعليم الرسمي للإناث في البحرين، فلولاهُ ما كان بالإمكان أن تجد تلك الأسرار الثمينة الموصَد على أكثرها في عالمٍ أنثويٍ خالِص طريقها عبر الزمن لتصل إلينا من خلال تدوين هذه السيرة الرَّوائيّة بمشاعر الطفلة اللمَّاحة «جميلة» التي بدأت تتلمس الإحساس العام والتأثير المُجتمعي المُتبادل منذ بواكير وعيها خلال منتصف السبعينيَّات وبداية الثمانينيَّات من القرن العشرين، ليكبُر عنفوانها معها مُرافقًا روحها الحُرَّة المشحونة بالتساؤلات، ويتخذ قلمها قراره بأن يهبَ تلك الذكريات فُرصة أخرى للانبعاث من ماضيها، لعلها تكون شاهدًا على صورٍ مُشرقة من الحياة المُجتمعية للناس في البحرين بوجهٍ عام، وفي منطقة النُّعيم الغربي بوجهٍ خاص، وعلى حياة المرأة البحرينية المُكافِحة وما كانت تمتاز به من ذكاء ونشاطٍ وتعاطُفٍ وبسالة في ذاك المكان والزمان بوجهٍ أكثر خصوصيَّة.
بلغةٍ شاعريَّةٍ آسِرة محبوكة بمهارةٍ سرديَّةٍ عالية، وثقافةٍ عميقة بفن التحليل النفسي، يحكي الكتاب عن «الحاجَّة بنت إبراهيم»، المرأة الضريرة التي «حملت على عاتقها ما لا يستطيع الرجال حمله، واحتسبت، وصَبَرَت؛ حتَّى تؤكِّد أن الحياة دمعة لا ابتسامة.. صـ40»، في مسكنها الصغير الخالي من آثار التقنيات العصرية كالكهرباء أو الثلاجة كانت تعيش حياة تخلو من المال والبنين بعد وفاة أخيها وأبنائها وزوجها الذي كانت تساعده بهمًّةٍ عاليةٍ خلال شبابها في خرف النخيل، وتمتطي حماره لأخذ الرطب والخضار إلى السوق برفقته، لتبقى بعد رحيلِ هؤلاء وحيدة صامدة صابرة، تستحضرها ذاكرة المؤلِّفة لتصفها بقولها: «كانت ذات وجهٍ نحيل، وأنفٍ منحوتٍ طويل، طويلة القامة، مُستقيمة الظهر، لم ينحنِ ظهرها، على الرغم من ضعف بُنيتها، حتى بعد أن تقدَّم بها العُمر. ذكيَّة، ومُعلِّمة للقرآن، لم تتوقف عن تعليمه، حتى بعد أن صارت كفيفةً لاحقًا؛ إذ استمرَّت في تِلاوته؛ حتى تُمكِّن المارَّة من سَماعِه. تتحدث بلُغةٍ أقرب إلى الفُصحى من العاميَّة الدارِجة.. صـ49»، ونظرًا إلى مكانتها الأموميَّة في هذا المُجتمع المُترابط فقد غدت جَدَّة لأهالي منطقة النُّعيم الغربي، وتطوَّع الجميع لخدمتها بعد أن كبرت في السن وخارت قواها، ولا سيِّما ثلاث جاراتٍ كانت «تعبة أم جمعة الوطني» -والدة كاتبة السيرة- إحداهن، لكن مع هذا تؤكد المؤلفة أنه «يُشهد للحاجَّة حرصها الشديد على أن تقوم بأعمالها بيديها، على الرغم من قدراتها الذاتية الضعيفة؛ كي تُحقق ذاتها، وتستشعر قيمة وجودها، وتندمج مع مجتمعها.. صـ68».
في كُل ليلةٍ من ليالي الصيف، وبعض ليالي الشتاء، تحت ضوء مصباح عمود الكهرباء الذي وضعته الحكومة؛ تتجمع النساء عند بابها من الخارج جالسات حول صينية دائرية مليئة بالمأكولات الطيبة التي يتناوبن على توفيرها بأرواحٍ أكثر طِيبة. تصغي إلى أحاديث النسوة التي يتبادلنها حول أخبار المنطقة، تقدم النصائح الدينية والأخلاقية مُجتهدة في أن تكون الأم النصوح لهن، ثم تبدأ في سرد الحكايات الخيالية الآسرة أو القصص الواقعية المُبهِرة. ولم يكن يُسمح للفتيات الصغيرات بمشاركة أمهاتهن الحضور إلا ليلة إجازة الأسبوع أو إجازة الصيف لكيلا يؤثر حضورهن المستمر على أدائهن الدراسي، ومن تلك الليالي التي كانت ترافق فيها الطفلة «جميلة الوطني» والدتها «تعبة» إلى جلسة السرد الممتعة؛ تغذى خيالها، واتسعت مداركها، وتعززت قدرتها على التوقع، لكن عقلها المُتدفق بالأسئلة كان يدفع صوتها للتمرد على القوانين التي وضعتها الحاجة، مؤكدة ضرورة الالتزام بالسكوت والإنصات، فينطلق بسؤالٍ يقطع حبل تسلسل القصة مُخترقا صرامة القوانين، ثم تعود إلى المنزل مع والدتها بعقلٍ مزدحم بالتساؤلات المُتعملِقة التي تترجمها بمشاعر مُتدفقة عند مُناجاتها نجوم السماء المُتلألئة خلال استلقائها على فراشها القُطني البارد فوق سطح المنزل قبل أن يستولي النوم على يقظتها مُسدلاً الستار مؤقتًا على فيضان تلك التساؤلات البريئة.
لم يكتفِ الكتاب بتقديمه نصًا أدبيًا محبوكًا بإتقان، ولا بأسلوبه الممتع في نقل سيرة «الحاجة بنت إبراهيم» بأقصى ما يُمكن من الصدق والشفافية، بل اتخذ سبيلاً مُشوقا في وصف بعض المراحل التاريخيَّة القيِّمة وتأثيرها على الحياة المُجتمعية والظروف الاقتصادية والمعيشية في البحرين، وأشار إلى بعض المعالم التاريخية والجُغرافيَّة التي تحمل طابعًا روحيًا ذا بصماتٍ عميقة في وجدان أهل منطقة «النُّعيم»، ولا سيَّما تلك المعالِم التي تؤكد الطبيعة الدينية المُتجذرة في المُجتمع البحريني منذ قديم العصور، وسلَّط الضوء على جوانب من كفاح المرأة البحرينية ذات الروح الشُّجاعة المُفعمة بالصبر والعزيمة والاجتهاد والوقوف جنبًا إلى جنب مع الرجل لتحقيق الأهداف السَّامية المُشتركة خلال تلك المرحلة، وكم كان الوصف بليغًا في قولها: «هنا لا مجال لتاء الأنوثة؛ لأن الكل مُنغمس في حاء الحياة، ومُتعايش مع باء البساطة، والواقع خبز يتقاسمه الجميع.. صـ21»، ولم تكتفِ المؤلفة بالسَّرد الممتع؛ بل حرصت على أن يمتاز التدوين بأكبر قدرٍ من المصداقيَّة مُستعينة باللقاءات المُباشرة مع بعض شخصيات السيرة التي مازالت على قيد الحياة لتبادل الذكريات وتدوينها صحيحة، ووثقت كثيرا من المعلومات بأكثر من ثمانين صورة فوتوغرافيَّة مع أمانة واضحة في حفظ حقوق الملكية الفكرية بالإشارة إلى مصدر كل صورة بدقَّة.
بين سطور هذا الكِتاب الفريد في مضمونه وأسلوبه تُحلّق مُخيلة القارئ في رحلة جذَّابة عبر الزمن حين تنطلق به الحافلة المعروفة بـ«البَست» ذات المقاعد الخشبيَّة نحو أحد المزارات يوم «لِشراك»، ثم يستمتع بتلك الأجواء التي ما أن ينتهي فيها الدعاء حتى يبدأ الغِناء، وتستنشق مشاعره رائحة «البلاليط» و«الممروس» و«ماء الورد»، يُجرب التهادي في سيره قليلاً بـ«قبقاب أبو صبعة» فإن لم يُلائم قدمه استبدله بـ«قبقاب أبو ربلة»، يدعو ربَّه عند «شجرة الأسديَّة»، ثم يستذكر حكاية «ملك الملوك» قبل أن يُغمض عينيه لينام حالمًا بقراءة إصدارٍ قادم يحمل له هذا الزخم من السَّحر اللذيذ.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك