العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

لماذا تدهورت مكانة القطب الأمريكي في العالم؟

بقلم: د. حسن نافعة

الجمعة ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٣ - 02:00

تسبّب‭ ‬التنافس‭ ‬على‭ ‬المستعمرات‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬اندلاع‭ ‬حربين‭ ‬عالميتين‭ ‬أفضتا،‭ ‬ضمن‭ ‬أمور‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة،‭ ‬إلى‭ ‬إضعاف‭ ‬مكانة‭ ‬القارّة‭ ‬الأوروبية‭ ‬ككل،‭ ‬وإلى‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬للسيطرة‭ ‬التي‭ ‬مارستها‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬قرونا،‭ ‬امتدت‭ ‬منذ‭ ‬ظهور‭ ‬الدولة‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬حتى‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬الزخم‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬التراجع‭ ‬الأوروبي‭ ‬ظهر‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬جديد‭ ‬تتنافس‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬مقاليده‭ ‬قوتان‭ ‬عظميان‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬القارّة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفيتي،‭ ‬وبرزت‭ ‬حركات‭ ‬تحرّر‭ ‬وطني‭ ‬تناضل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الاستقلال‭ ‬السياسي‭ ‬والتحرّر‭ ‬من‭ ‬إسار‭ ‬التبعية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬ربطت‭ ‬شعوبها‭ ‬بالنظام‭ ‬الاستعماري‭ ‬القديم‭. ‬

لذا‭ ‬بدا‭ ‬واضحا،‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬اندلع‭ ‬فيها‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬قيادة‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬جديد‭ ‬ثنائي‭ ‬القطبية،‭ ‬أن‭ ‬حسم‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬سيتوقف،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬ستربط‭ ‬كلا‭ ‬منهما‭ ‬مستقبلا‭ ‬بشعوب‭ ‬المستعمرات‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تُعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭.‬

حين‭ ‬ظهر‭ ‬القطبان‭ ‬الأمريكي‭ ‬والسوفيتي‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬السياسة‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬الثانية‭ ‬بدت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬موقفٍ‭ ‬يتيح‭ ‬لها‭ ‬مد‭ ‬نفوذها‭ ‬بسهولة‭ ‬أكبر‭ ‬نسبيا‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬تحرّرت‭ ‬حديثا‭ ‬من‭ ‬نير‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوروبي،‭ ‬لأسباب‭ ‬متعدّدة،‭ ‬في‭ ‬مقدّمتها‭ ‬خلو‭ ‬تاريخها‭ ‬من‭ ‬ماض‭ ‬استعماري‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬مدّ‭ ‬الجسور‭ ‬مع‭ ‬شعوب‭ ‬المستعمرات‭ ‬القديمة‭. ‬ولأنها‭ ‬عانت‭ ‬من‭ ‬استعمار‭ ‬أوروبي‭ ‬خضعت‭ ‬له‭ ‬قرونا،‭ ‬فقد‭ ‬اعتقدت‭ ‬نخبٌ‭ ‬عديدة‭ ‬حاكمة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المستقلة‭ ‬حديثا‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ستكون‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تفهم‭ ‬مشكلاتها،‭ ‬وعلى‭ ‬مد‭ ‬يد‭ ‬العون‭ ‬والمساعدة‭ ‬لشعوبها‭.‬

إذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدّم‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬أقوى‭ ‬وأغنى‭ ‬دولة‭ ‬عرفها‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬وأن‭ ‬نظامها‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬بدا‭ ‬أكثر‭ ‬نماذج‭ ‬النظم‭ ‬المعاصرة‭ ‬حيوية‭ ‬وجاذبية‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬النمو‭ ‬وضمان‭ ‬أوسع‭ ‬مشاركة‭ ‬سياسية‭ ‬ممكنة،‭ ‬لتبيّن‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬أن‭ ‬كفّة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بدت‭ ‬هي‭ ‬الأرجح‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬والأقدر‭ ‬على‭ ‬حسم‭ ‬الصراع‭ ‬الدولي‭ ‬على‭ ‬النفوذ‭ ‬لصالحها‭. ‬صحيحٌ‭ ‬أن‭ ‬تاريخ‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬خلا‭ ‬بدوره‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬ماض‭ ‬استعماري،‭ ‬لكن‭ ‬نظامه‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أقلّ‭ ‬جاذبيةً‭ ‬وقدرةً‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬ارتكبت‭ ‬أخطاء‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬تعاملها‭ ‬مع‭ ‬حركات‭ ‬التحرّر‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الجنوب،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أتاح‭ ‬أمام‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬فرصا‭ ‬ذهبية‭ ‬لمدّ‭ ‬نفوذه‭ ‬بسهولة‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬وتمكّن‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحلم‭ ‬بالوصول‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

فبعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬مباشرة،‭ ‬تبنّت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬سياسة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬ردع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬واحتوائه،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محاصرته‭ ‬بسلسلة‭ ‬من‭ ‬الأحلاف‭ ‬العسكرية‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬الحيلولة‭ ‬دون‭ ‬تمكينه‭ ‬من‭ ‬مدّ‭ ‬نفوذه‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬القارّة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬وخصوصا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تمكّن‭ ‬إبان‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬عددٍ‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭. ‬وبدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تسعى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬استمالة‭ ‬حركات‭ ‬التحرّر‭ ‬الوطني‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬المستعمرات‭ ‬الأوروبية‭ ‬القديمة،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تفهم‭ ‬احتياجات‭ ‬شعوبها،‭ ‬راحت‭ ‬تنغمس‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الداخلية‭ ‬لدول‭ ‬الجنوب،‭ ‬وتسعى‭ ‬إلى‭ ‬إجهاض‭ ‬أي‭ ‬ثورات‭ ‬أو‭ ‬حركات‭ ‬اجتماعية‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬النهوض‭ ‬بهذه‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭. ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬أطاحت‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬الأمريكية‭ ‬عام‭ ‬1952‭ ‬بحكومة‭ ‬محمد‭ ‬مصدق‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬وأصرت‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬الشاه‭ ‬المخلوع‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬هناك،‭ ‬كما‭ ‬أطاحت‭ ‬عام‭ ‬1954‭ ‬الحكومة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬جواتيمالا،‭ ‬ونصّبت‭ ‬بدلا‭ ‬منها‭ ‬حكومة‭ ‬موالية‭ ‬لها‭.‬

وحين‭ ‬تأسّست‭ ‬حركة‭ ‬عدم‭ ‬الانحياز‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬غرس‭ ‬بذورها‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬باندونج‭ ‬الذي‭ ‬انعقد‭ ‬عام‭ ‬1955،‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الحركة‭ ‬بمثابة‭ ‬معمل‭ ‬اختبار‭ ‬حقيقي‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬قياس‭ ‬مدى‭ ‬قدرة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬القوّتين‭ ‬العظميين‭ ‬المتنافستين‭ ‬على‭ ‬قيادة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬تطلّعات‭ ‬حركات‭ ‬التحرّر‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الجنوب،‭ ‬فبينما‭ ‬رأت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬عدم‭ ‬الانحياز‮»‬‭ ‬منحًى‭ ‬‮«‬غير‭ ‬أخلاقي‮»‬،‭ ‬دفعت‭ ‬إليه‭ ‬رغبة‭ ‬خبيثة‭ ‬في‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬معسكر‭ ‬‮«‬الخير‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬الغرب‭ ‬الديمقراطي‭ ‬والاقتراب‭ ‬من‭ ‬معسكر‭ ‬‮«‬الشر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬الشرق‭ ‬الاستبدادي،‭ ‬بدا‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تفهم‭ ‬مشكلات‭ ‬الحركة‭ ‬ومطالبها،‭ ‬وتعامل‭ ‬مع‭ ‬دولها‭ ‬بقدر‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬المرونة،‭ ‬وبدا‭ ‬مقدّرا‭ ‬مواقفها‭ ‬المعادية‭ ‬للاستعمار،‭ ‬وحريصا‭ ‬على‭ ‬دعم‭ ‬طموحاتها‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الاستقلال‭ ‬الوطني‭ ‬والاستجابة‭ ‬لتطلّعات‭ ‬شعوبها‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭.‬

صحيحٌ‭ ‬أن‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬كان‭ ‬واعيا‭ ‬أن‭ ‬دعمه‭ ‬حركات‭ ‬التحرّر‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭ ‬سيؤدّي‭ ‬تلقائيا‭ ‬إلى‭ ‬إضعاف‭ ‬المعسكر‭ ‬الغربي،‭ ‬وصحيح‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بدت‭ ‬حريصةً،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تتبنّى‭ ‬مواقف‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتميّزة‭ ‬عن‭ ‬مواقف‭ ‬القوى‭ ‬الاستعمارية‭ ‬التقليدية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬واضحا‭ ‬إبّان‭ ‬أزمة‭ ‬السويس‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬خلالها‭ ‬موقفا‭ ‬معاديا‭ ‬للعدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تبيّن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬كان‭ ‬مدفوعا‭ ‬بالرغبة‭ ‬في‭ ‬وراثة‭ ‬تركة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوروبي‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬البالغة‭ ‬الأهمية‭ ‬والحساسية،‭ ‬بأكثر‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬مدفوعا‭ ‬بالحرص‭ ‬على‭ ‬مصالح‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭. ‬لذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تردّد،‭ ‬إن‭ ‬أزمة‭ ‬السويس‭ ‬كانت‭ ‬كاشفة‭ ‬للبعد‭ ‬‮«‬الإمبريالي‮»‬‭ ‬للقوة‭ ‬الأمريكية‭ ‬الصاعدة،‭ ‬ولتطلع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬بوسائل‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬الاستعمار‭ ‬المباشر‭ ‬أو‭ ‬الاحتلال‭ ‬العسكري‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬راح‭ ‬فيه‭ ‬صراع‭ ‬النفوذ‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭ ‬يشتدّ‭ ‬بين‭ ‬القوتين‭ ‬العظميين‭ ‬المتنافسين‭ ‬على‭ ‬قيادة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تمكّنت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدّة‭ ‬من‭ ‬حسم‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬لصالحها،‭ ‬حين‭ ‬انهار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬وتفكّك‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الثمانينيات‭ ‬وبداية‭ ‬التسعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

باختفاء‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬من‭ ‬مسرح‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية‭ ‬تقلص‭ ‬الهامش‭ ‬المتاح‭ ‬أمام‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭ ‬للتأثير‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬وقيمه،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أصبحت‭ ‬علاقة‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ليست‭ ‬مباشرة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬غير‭ ‬متوازنة‭ ‬أيضا،‭ ‬وخصوصا‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أرادت‭ ‬لهذه‭ ‬العلاقة‭ ‬أن‭ ‬تبنى‭ ‬على‭ ‬قاعدتي‭ ‬الخنوع‭ ‬والتبعية،‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬الشراكة‭ ‬والتعاون‭ ‬وتبادل‭ ‬المصالح‭ ‬والمنافع،‭ ‬كما‭ ‬تطلعت‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭. ‬لذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬سقوط‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬أدّى‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬كل‭ ‬الأقنعة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬إذ‭ ‬راحت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬حقيقتها‭ ‬بدون‭ ‬أي‭ ‬مساحيق‭ ‬تجميلية،‭ ‬واستمر‭ ‬الحال‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المنوال‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وقعت‭ ‬أحداث‭ ‬‮«‬11‭ ‬سبتمبر‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2001،‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬منها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ذريعة‭ ‬لإطلاق‭ ‬‮«‬حربٍ‭ ‬كونيةٍ‭ ‬على‭ ‬الإرهاب‮»‬،‭ ‬استخدمتها‭ ‬أداةً‭ ‬لفرض‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭ ‬بالقوة‭ ‬المسلحة‭. ‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬التصرّفات‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬سبتمبر،‭ ‬وخصوصا‭ ‬تجاه‭ ‬دول‭ ‬الجنوب،‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬انحطاط‭ ‬أخلاقي‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬الانحطاط‭ ‬تجلى‭ ‬في‭ ‬أبشع‭ ‬صوره‭ ‬قبيل‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكي‭ ‬للعراق‭ ‬عام‭ ‬2003‭ ‬وفي‭ ‬أثنائه،‭ ‬فقد‭ ‬أقدمت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الغزو‭ ‬رغم‭ ‬أنف‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬في‭ ‬تحدّ‭ ‬سافر‭ ‬للشرعية‭ ‬الدولية‭ ‬وانتهاك‭ ‬فاضح‭ ‬ومتعمّد‭ ‬للقانون‭ ‬الدولي،‭ ‬وكذبت‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬كله،‭ ‬حين‭ ‬برّرت‭ ‬عدوانها‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬بادّعاء‭ ‬أنه‭ ‬يُخفي‭ ‬أسلحة‭ ‬دمار‭ ‬شامل،‭ ‬ثم‭ ‬أسقطت‭ ‬نظام‭ ‬صدّام‭ ‬حسين‭ ‬بقوة‭ ‬السلاح،‭ ‬بدعوى‭ ‬أنه‭ ‬نظامٌ‭ ‬مستبدّ،‭ ‬وأن‭ ‬العراق‭ ‬سيكون‭ ‬أفضل‭ ‬بدونه،‭ ‬لكنها‭ ‬أسّست‭ ‬نظاما‭ ‬طائفيا‭ ‬لا‭ ‬يمتّ‭ ‬إلى‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بصلة‭. ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬احتلالها‭ ‬العراق‭ ‬ارتكبت‭ ‬جرائم‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية‭ ‬وجرائم‭ ‬تعذيب‭ ‬وأقدمت‭ ‬على‭ ‬انتهاكات‭ ‬واسعة‭ ‬النطاق‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬كشفت‭ ‬عنها‭ ‬أحداث‭ ‬سجن‭ ‬أبو‭ ‬غريب‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭. ‬ولأن‭ ‬ما‭ ‬ارتكبته‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬فظائع‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬تكرّر‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬فترة‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية‭ ‬المنفردة‭ ‬كانت‭ ‬وبالا‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬وخصوصا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬دول‭ ‬الجنوب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬بوضوح‭ ‬لماذا‭ ‬تبدو‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭ ‬بالذات‭ ‬متحمّسة‭ ‬لإنهاء‭ ‬عصر‭ ‬القطبية‭ ‬الأحادية‭ ‬رغم‭ ‬تحفّظها‭ ‬الواضح‭ ‬على‭ ‬الأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬استخدمته‭ ‬روسيا،‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬لإجبار‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬القبول‭ ‬بضرورة‭ ‬إقامة‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬جديد‭ ‬متعدّد‭ ‬القطبية‭.‬

تدرك‭ ‬دول‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الجديد‭ ‬متعدّد‭ ‬القطبية‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يحقق‭ ‬بالضرورة‭ ‬كل‭ ‬طموحاتها‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬وخصوصا‭ ‬إذا‭ ‬اقتصرت‭ ‬قيادته‭ ‬على‭ ‬الصين‭ ‬وروسيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬لكن‭ ‬المعاناة‭ ‬التي‭ ‬تكبّدتها‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬إبان‭ ‬فترة‭ ‬هيمنة‭ ‬القطب‭ ‬الأمريكي‭ ‬المنفردة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬التي‭ ‬جسّدت‭ ‬القبح‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬صوره‭ ‬بشاعة،‭ ‬تجعلها‭ ‬حريصة‭ ‬بدورها‭ ‬على‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الهيمنة‭ ‬بأي‭ ‬ثمن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تبيّن‭ ‬بوضوح‭ ‬إبّان‭ ‬القمة‭ ‬الروسية‭ ‬الإفريقية‭ ‬التي‭ ‬انعقدت‭ ‬في‭ ‬سانت‭ ‬بطرسبرج‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬يوليو‭ ‬الماضي،‭ ‬وشارك‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬رؤساء‭ ‬الدول‭ ‬الإفريقية‭ ‬تقريبا‭. ‬صحيحٌ‭ ‬أن‭ ‬دول‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تتمكّن‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬توحيد‭ ‬صفوفها‭ ‬حول‭ ‬رؤية‭ ‬موحّدة‭ ‬لطبيعة‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تأسيسه،‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬المصالح‭ ‬الإنسانية‭ ‬المشتركة‮»‬‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬توازن‭ ‬القوى‮»‬‭ ‬التقليدي،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تبدو‭ ‬متفقة‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬واحد،‭ ‬أن‭ ‬عصر‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية‭ ‬المنفردة‭ ‬والقطب‭ ‬الأوحد‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يسقط‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬رجعة‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا