العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الشروط السياسية لنجاح خطط الإصلاح الاقتصادي

بقلم: د. مصطفى كامل السيد

الأربعاء ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٣ - 02:00

أصارح‭ ‬القراء‭ ‬بداية‭ ‬أن‭ ‬قاموس‭ ‬اللغة‭ ‬المتداول‭ ‬إعلاميا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬تعريف‭ ‬مستقر‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬والذى‭ ‬لابد‭ ‬وأن‭ ‬يتفاوت‭ ‬مضمونه‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬ومن‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬أخرى،‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬وفى‭ ‬ظل‭ ‬هيمنة‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬عالميا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر،‭ ‬فالمفهوم‭ ‬الجاري‭ ‬للإصلاح‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الإصلاح‭ ‬الذي‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬تقليل‭ ‬تدخل‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬وترك‭ ‬مساره‭ ‬لتحدده‭ ‬أوضاع‭ ‬السوق،‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬جعل‭ ‬المشروع‭ ‬الخاص‭ ‬هو‭ ‬القاعدة‭ ‬الأساسية‭ ‬للاقتصاد،‭ ‬وفتح‭ ‬السوق‭ ‬الوطني‭ ‬أمام‭ ‬حرية‭ ‬التجارة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬السلع‭ ‬والخدمات‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال‭. ‬

لن‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬النقاش‭ ‬الفلسفي‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬سوف‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬اقتصادي‭ ‬بمعنى‭ ‬رفع‭ ‬إنتاجية‭ ‬عوامل‭ ‬الإنتاج‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬ورأس‭ ‬مال،‭ ‬والتغير‭ ‬البنيوي‭ ‬ابتعادا‭ ‬عن‭ ‬قطاع‭ ‬الإنتاج‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬زراعة‭ ‬ومعادن‭ ‬وطاقة‭ ‬وزيادة‭ ‬نصيب‭ ‬قطاعات‭ ‬الصناعات‭ ‬التحويلية‭ ‬والخدمات‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬وما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تخفيف‭ ‬أو‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الفقر‭ ‬وتوفير‭ ‬ظروف‭ ‬حياة‭ ‬كريمة‭ ‬لكل‭ ‬المواطنات‭ ‬والمواطنين،‭ ‬ولكن‭ ‬فلنقتصر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬على‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬بمفهومه‭ ‬النيو‭ ‬ليبرالي‭ ‬الذى‭ ‬يأخذ‭ ‬به‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي،‭ ‬ليس‭ ‬حبا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المفهوم،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنه‭ ‬المفهوم‭ ‬الذى‭ ‬أقره‭ ‬مجلس‭ ‬إدارة‭ ‬الصندوق‭ ‬ويعتمده‭ ‬في‭ ‬سياساته‭.‬

مثل‭ ‬هذا‭ ‬الإصلاح‭ ‬يدرك‭ ‬خبراء‭ ‬الصندوق‭ ‬أن‭ ‬نجاحه‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬اعتبارات‭ ‬اقتصادية‭ ‬ولكنه‭ ‬يتوقف‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الاعتبارات‭ ‬السياسية‭ ‬بل‭ ‬والثقافية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬اجتهد‭ ‬خبراء‭ ‬الصندوق،‭ ‬ومعهم‭ ‬خبراء‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عنها،‭ ‬واعتبروا‭ ‬أن‭ ‬الوفاء‭ ‬بهذه‭ ‬الاعتبارات‭ ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬يكفل‭ ‬نجاح‭ ‬ما‭ ‬أسموه‭ ‬توافق‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬واشنطن،‭ ‬أي‭ ‬توافق‭ ‬المؤسستين‭ ‬على‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬السياسات‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬السياسات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تأخذ‭ ‬هذه‭ ‬الاعتبارات‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬والتي‭ ‬تركز‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬التوازن‭ ‬النقدي‭ ‬والمالي،‭ ‬والتي‭ ‬شكلت‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بتوافق‭ ‬واشنطن،‭ ‬وكانت‭ ‬مذكرة‭ ‬الصندوق‭ ‬للحكومة‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1977‭ ‬صيغة‭ ‬مبكرة‭ ‬لها،‭ ‬وأدت‭ ‬محاولة‭ ‬الحكومة‭ ‬المصرية‭ ‬لتطبيقها‭ ‬إلى‭ ‬اندلاع‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬17‭ ‬و18‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬العام،‭ ‬والتي‭ ‬أجبرت‭ ‬الحكومة‭ ‬على‭ ‬التراجع‭ ‬عنها‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬تجربة‭ ‬مصر‭ ‬وحدها‭ ‬مع‭ ‬الصندوق‭ ‬وخطته‭ ‬للإصلاح‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬قصة‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬أبرمت‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الاتفاقات‭ ‬مع‭ ‬الصندوق،‭ ‬واضطرت‭ ‬إلى‭ ‬التراجع‭ ‬عنها‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬الانتفاضات‭ ‬الشعبية،‭ ‬ولذلك،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬موضوع‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬بدأ‭ ‬خبراء‭ ‬الصندوق‭ ‬والبنك‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الشروط‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تكفل‭ ‬نجاح‭ ‬ما‭ ‬يعتبرونه‭ ‬إصلاحا‭ ‬اقتصاديا،‭ ‬ولذلك‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬معرفة‭ ‬هذه‭ ‬الشروط‭..‬

تعود‭ ‬أسباب‭ ‬فشل‭ ‬وصفة‭ ‬الصندوق‭ ‬في‭ ‬صيغتها‭ ‬الأولى‭ ‬واضحة‭ ‬ومعروفة‭. ‬أعباء‭ ‬الوصفة‭ ‬واضحة‭. ‬تقليل‭ ‬عجز‭ ‬الموازنة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬خفض‭ ‬النفقات‭ ‬يأتي‭ ‬غالبا‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬من‭ ‬تعليم‭ ‬وصحة‭ ‬ودعم‭ ‬الغذاء‭ ‬للفقراء‭ ‬لأن‭ ‬الحكومات‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬خفض‭ ‬الإنفاق‭ ‬على‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأمنية،‭ ‬كما‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬الضرائب‭ ‬على‭ ‬الأغنياء‭ ‬من‭ ‬أنصارها‭ ‬بدعوى‭ ‬أنهم‭ ‬يخصصون‭ ‬أرباحهم‭ ‬للاستثمار،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬إما‭ ‬لا‭ ‬يدفعون‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الضرائب،‭ ‬أو‭ ‬يهربون‭ ‬ثرواتهم‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬البلاد،‭ ‬وهذه‭ ‬قصة‭ ‬معروفة‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭. ‬ولذلك‭ ‬يجد‭ ‬محدودو‭ ‬الدخل‭ ‬أن‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يدفعوا‭ ‬مبالغ‭ ‬أكبر‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الأساسية‭ ‬وكذلك‭ ‬لتأمين‭ ‬غذائهم‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬النصيحة‭ ‬الأخرى‭ ‬للصندوق‭ ‬بخفض‭ ‬سعر‭ ‬العملة‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬العملات‭ ‬الدولية‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬الواردات‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬واردات‭ ‬الغذاء‭ ‬ومستلزمات‭ ‬الإنتاج،‭ ‬ويترتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬قفزات‭ ‬في‭ ‬أسعار‭ ‬الغذاء‭ ‬وانخفاض‭ ‬مستويات‭ ‬الإنتاج‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬مستلزماته‭ ‬المستوردة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬الحكومة‭ ‬طريقة‭ ‬لتوفير‭ ‬التمويل‭ ‬الأجنبي‭ ‬للمنتجين‭ ‬المحليين‭ ‬الذين‭ ‬يعتمدون‭ ‬عليها‭. ‬ومع‭ ‬ضغط‭ ‬الإنفاق‭ ‬العام‭ ‬ورفع‭ ‬أسعار‭ ‬الفائدة‭ ‬بدعوى‭ ‬تشجيع‭ ‬الادخار‭ ‬وحماية‭ ‬العملة‭ ‬المحلية‭ ‬يدب‭ ‬الكساد‭ ‬وترتفع‭ ‬مستويات‭ ‬البطالة‭. ‬هذه‭ ‬النتائج‭ ‬لبرامج‭ ‬الإصلاح‭ ‬التي‭ ‬يدعو‭ ‬إليها‭ ‬الصندوق‭ ‬هي‭ ‬محل‭ ‬قبول‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬خبراء‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬ولكن‭ ‬أنصار‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬يدعون‭ ‬أن‭ ‬الأثر‭ ‬الانكماشي‭ ‬لبرامج‭ ‬الصندوق‭ ‬هو‭ ‬تضحية‭ ‬ضرورية‭ ‬في‭ ‬الأجل‭ ‬القصير،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يتوقعون‭ ‬أن‭ ‬النتائج‭ ‬الإيجابية‭ ‬لهذه‭ ‬البرامج‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬وأن‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬الأجلين‭ ‬المتوسط‭ ‬والطويل‭. ‬ولذلك‭ ‬احتاج‭ ‬الصندوق‭ ‬علماء‭ ‬السياسة‭ ‬ليجدوا‭ ‬طريقا‭ ‬لضمان‭ ‬استمرار‭ ‬الحكومات‭ ‬القائمة‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬الإصلاح‭ ‬في‭ ‬الأجل‭ ‬القصير‭ ‬حتى‭ ‬تشهد‭ ‬النتائج‭ ‬الإيجابية‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭.‬

وجد‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء‭ ‬أن‭ ‬توفير‭ ‬الظروف‭ ‬السياسية‭ ‬لبقاء‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحكومات‭ ‬‮«‬الشجاعة‮»‬‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرهم‭ ‬تكتنفه‭ ‬صعوبات‭. ‬أولها‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬معروفا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬من‭ ‬المستفيدين‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البرامج‭ ‬حتى‭ ‬يمكنهم‭ ‬الدفاع‭ ‬عنها‭. ‬

ربما‭ ‬يستفيد‭ ‬منها‭ ‬المصدرون‭ ‬الذين‭ ‬يحبذون‭ ‬انخفاض‭ ‬سعر‭ ‬العملة‭ ‬المحلية‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬صادراتهم‭ ‬أرخص‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬الأجنبية،‭ ‬ويستفيد‭ ‬منها‭ ‬كذلك‭ ‬حائزو‭ ‬العملات‭ ‬الأجنبية‭ ‬التي‭ ‬يرتفع‭ ‬سعر‭ ‬تبادلها‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬المحلى‭ ‬مع‭ ‬انخفاض‭ ‬سعر‭ ‬العملة‭ ‬المحلية،‭ ‬وربما‭ ‬يستفيد‭ ‬منها‭ ‬كذلك‭ ‬المزارعون‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬انسحاب‭ ‬الحكومة‭ ‬من‭ ‬تسعير‭ ‬السلع‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬المحاصيل‭ ‬الزراعية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬تجد‭ ‬تأييدا‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الخبراء‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الحر،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬هم‭ ‬قلة‭ ‬أمام‭ ‬جمهور‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬المواطنات‭ ‬والمواطنين‭ ‬تضيرهم‭ ‬السياسات‭ ‬التقشفية‭ ‬بما‭ ‬تؤدي‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬تضخم‭ ‬ركودي‭ ‬ومن‭ ‬بطالة‭.‬

ويضيف‭ ‬علماء‭ ‬السياسة‭ ‬الذين‭ ‬يستعين‭ ‬بهم‭ ‬الصندوق‭ ‬والبنك‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬أعباء‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬الأجل‭ ‬القصير،‭ ‬فإن‭ ‬فوائدها‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الأمد‭ ‬البعيد‭. ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬الذي‭ ‬يهم‭ ‬المواطنون‭ ‬والمواطنات‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يجرى‭ ‬لجيوبهم‭ ‬اليوم‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يبالون‭ ‬بالمنافع‭ ‬التي‭ ‬ستتحقق‭ ‬في‭ ‬الغد،‭ ‬وخصوصا‭ ‬أنها‭ ‬غير‭ ‬مؤكدة‭. ‬وفضلا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬فأغلبية‭ ‬الشعوب‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬فحوى‭ ‬هذه‭ ‬البرامج،‭ ‬على‭ ‬المديين‭ ‬القصير‭ ‬أو‭ ‬الطويل،‭ ‬هو‭ ‬يشعر‭ ‬فقط‭ ‬بأثره‭ ‬عليه‭.‬

‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬اجتهد‭ ‬علماء‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتبناها‭ ‬الحكومات‭ ‬الساعية‭ ‬للإصلاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬حتى‭ ‬تكتسب‭ ‬تأييدا‭ ‬واسعا‭ ‬لهذه‭ ‬السياسات،‭ ‬ولا‭ ‬يتوقف‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬توضيح‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬ولكن‭ ‬يمتد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تصميم‭ ‬هذه‭ ‬البرامج،‭ ‬والتوزيع‭ ‬العادل‭ ‬للأعباء‭ ‬والمنافع‭ ‬الناتجة‭ ‬عنها‭ ‬والأخذ‭ ‬بإجراءات‭ ‬تعويضية‭ ‬اقتصادية‭ ‬وغير‭ ‬اقتصادية‭ ‬توسع‭ ‬نطاق‭ ‬أنصار‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭.‬

أول‭ ‬عناصر‭ ‬هذه‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬هي‭ ‬الشفافية‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬مضمون‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭. ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬المواطنات‭ ‬والمواطنون‭ ‬طبيعة‭ ‬الإجراءات‭ ‬التي‭ ‬تتخذها‭ ‬الحكومة‭ ‬تطبيقا‭ ‬للإصلاح‭. ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتركهم‭ ‬الحكومات‭ ‬نهبا‭ ‬للإشاعات‭ ‬أو‭ ‬أنصاف‭ ‬الحقائق‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬البرامج،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬سيحدث‭ ‬للعملة‭ ‬المحلية؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬سيحدث‭ ‬لأسعار‭ ‬الفائدة،‭ ‬وما‭ ‬أثر‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬مدخراتهم؟‭ ‬وما‭ ‬حدود‭ ‬رفع‭ ‬الدعم‭ ‬عن‭ ‬المنتجات‭ ‬الغذائية‭ ‬وأسعار‭ ‬الوقود؟‭ ‬ومتى‭ ‬تتوفر‭ ‬العملات‭ ‬الأجنبية‭ ‬للمنتجين‭ ‬الذين‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ ‬استيراد‭ ‬مستلزمات‭ ‬الإنتاج؟

قد‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الصراحة‭ ‬مؤلمة‭ ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬البرامج‭ ‬تتطلب‭ ‬تضحيات،‭ ‬ولذلك‭ ‬فالذي‭ ‬يشجع‭ ‬المواطنين‭ ‬والمواطنات‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬هذه‭ ‬التضحيات‭ ‬أن‭ ‬يدركوا‭ ‬أنها‭ ‬ستعود‭ ‬عليهم‭ ‬وعلى‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬وعلى‭ ‬بلادهم‭ ‬بالنفع‭ ‬في‭ ‬الأجلين‭ ‬المتوسط‭ ‬والطويل‭.‬

‭ ‬ويمتد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تصميم‭ ‬برامج‭ ‬الإصلاح‭ ‬ذاتها،‭ ‬ففي‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التصميم‭ ‬يكون‭ ‬واضحا‭ ‬أن‭ ‬خفض‭ ‬عجز‭ ‬الموازنة‭ ‬وتخفيض‭ ‬سعر‭ ‬العملة‭ ‬المحلية،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الإصلاحين‭ ‬المالي‭ ‬والنقدي،‭ ‬سيعقبهما‭ ‬إصلاح‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الحقيقي،‭ ‬أي‭ ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الزراعي،‭ ‬ونقلة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الصناعي،‭ ‬ونهضة‭ ‬في‭ ‬الخدمات‭ ‬الإنتاجية‭ ‬مثل‭ ‬خدمات‭ ‬الاتصالات‭ ‬والبحث‭ ‬العلمي،‭ ‬وارتفاع‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬الإنتاجية‭ ‬وتحسن‭ ‬في‭ ‬مستويات‭ ‬المعيشة،‭ ‬أما‭ ‬عندما‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬المواطنون‭ ‬والمواطنات‭ ‬أفقا‭ ‬واضحا‭ ‬ومقبولا‭ ‬لما‭ ‬تدعي‭ ‬الحكومة‭ ‬أنه‭ ‬إصلاح،‭ ‬فسوف‭ ‬يضيقون‭ ‬به،‭ ‬ويميلون‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬المبالاة‭ ‬به،‭ ‬بل‭ ‬ومقاومته‭ ‬أو‭ ‬التهرب‭ ‬منه‭.‬

ومما‭ ‬يشجع‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬قبول‭ ‬هذه‭ ‬البرامج‭ ‬عنصر‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬تصميمها،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬توزيع‭ ‬عادل‭ ‬للأعباء‭ ‬والمنافع،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تصطحب‭ ‬الحوافز‭ ‬المقدمة‭ ‬لرجال‭ ‬الأعمال‭ ‬مثل‭ ‬تسهيلات‭ ‬استخراج‭ ‬التصاريح‭ ‬أو‭ ‬إعانات‭ ‬للتصدير‭ ‬بجهود‭ ‬جادة‭ ‬وملموسة‭ ‬لتحسين‭ ‬مستوى‭ ‬التعليم‭ ‬أو‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬واستمرار‭ ‬دعم‭ ‬المنتجات‭ ‬الغذائية‭ ‬الضرورية‭ ‬للفقراء‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬المطلوب‭ ‬من‭ ‬الفقراء‭ ‬تحمل‭ ‬بعض‭ ‬التضحيات‭ ‬الناتجة‭ ‬مثلا‭ ‬عن‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬المواصلات‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬يقابل‭ ‬ذلك‭ ‬تضحيات‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬مثل‭ ‬الأخذ‭ ‬بمبدأ‭ ‬الضرائب‭ ‬التصاعدية،‭ ‬أو‭ ‬ضرائب‭ ‬على‭ ‬الكسب‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬رأس‭ ‬المال‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يقترن‭ ‬ذلك‭ ‬أيضا‭ ‬بما‭ ‬يسمى‭ ‬بإجراءات‭ ‬تعويضية،‭ ‬بعضها‭ ‬اقتصادي‭ ‬وبعضها‭ ‬سياسي‭. ‬أحد‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬التعويضية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إقرار‭ ‬حد‭ ‬أدنى‭ ‬حقيقي‭ ‬للدخل‭ ‬لكاسبي‭ ‬الأجور،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بالطبع‭ ‬لأقلهم‭ ‬أجرا،‭ ‬أو‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬دعم‭ ‬بعض‭ ‬المنتجات‭ ‬الغذائية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تخفيض‭ ‬أسعارها،‭ ‬أو‭ ‬خفض‭ ‬أسعار‭ ‬المواصلات‭ ‬أو‭ ‬رسوم‭ ‬استخدام‭ ‬الكهرباء‭ ‬لأقل‭ ‬الشرائح‭ ‬استهلاكا‭. ‬من‭ ‬شأن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬كسب‭ ‬تأييد‭ ‬هؤلاء‭ ‬المواطنين‭ ‬والمواطنات‭ ‬لبرنامج‭ ‬الإصلاح‭ ‬ككل،‭ ‬ولكن‭ ‬تقليل‭ ‬احتمالات‭ ‬مقاومتهم‭ ‬له‭.‬

وقد‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬قبول‭ ‬برامج‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬دول‭ ‬شرق‭ ‬أوروبا‭ ‬اقتران‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬بإصلاح‭ ‬سياسي،‭ ‬فتقليل‭ ‬تدخل‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬اقترن‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬بالانتقال‭ ‬إلى‭ ‬نظم‭ ‬سياسية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬إطلاق‭ ‬الحريات‭ ‬المدنية‭ ‬والسياسية‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬حريات‭ ‬التعبير‭ ‬والتنظيم،‭ ‬وإنهاء‭ ‬سيطرة‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية،‭ ‬وإجراء‭ ‬انتخابات‭ ‬حرة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لكل‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬ترتب‭ ‬عليها‭ ‬تداول‭ ‬متكرر‭ ‬للسلطة،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يقترن‭ ‬الأخذ‭ ‬بهذه‭ ‬السياسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بانتصار‭ ‬عسكري‭ ‬أو‭ ‬مكاسب‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬كحسم‭ ‬بعض‭ ‬أزماتها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يحقق‭ ‬المصلحة‭ ‬الوطنية‭.‬

ولعل‭ ‬أهم‭ ‬شرط‭ ‬يضمن‭ ‬النجاح‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬البرامج‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لها‭ ‬قاعدة‭ ‬اجتماعية‭ ‬واسعة‭ ‬تشمل‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬رجال‭ ‬الدولة‭ ‬المؤمنين‭ ‬بالإصلاح‭ ‬الخبراء‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬مدارس‭ ‬متنوعة‭ ‬وقسما‭ ‬مهما‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الصناعة‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬ومؤسسات‭ ‬القطاع‭ ‬العام‭ ‬الكبرى‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬نقابات‭ ‬العمال‭ ‬واتحادات‭ ‬الفلاحين‭. ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وتصميم‭ ‬برنامج‭ ‬الإصلاح‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬شرحته‭ ‬السطور‭ ‬السابقة‭ ‬يصبح‭ ‬برنامج‭ ‬الإصلاح‭ ‬برنامجا‭ ‬وطنيا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الصحيح،‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬ترجمة‭ ‬لما‭ ‬تريده‭ ‬مؤسسات‭ ‬واشنطن‭.‬

‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا