تؤكد روسيا يوماً بعد يوم مُضيّها في تحقيق تفوّق عسكري على أوكرانيا وخلفها التحالف الغربي، حتى لو كلّفها ذلك كل خزينة الدولة وحتى الذهاب بآخر جندي روسي إلى أرض المعركة، والتلويح باستخدام السلاح النووي.
موسكو تعتبر الانتصار على أوكرانيا أولوية الأولويات وأهم تحدٍّ جيوستراتيجيّ قد يعيد صياغة المشهد السياسي والنفوذ في القارة الأوروبية على وجه الخصوص والدولي عموماً، وكذلك الحال بالنسبة للدول الأوروبية التي تخاف من الدب الروسي وتدفع باتجاه تكبير حلف «الناتو» وزيادة إنفاقها العسكري لدعم كييف.
غير أن روسيا تحتاج إلى موارد كثيرة وضخمة لتحقيق تفوق عسكري في صراع يبدو أنه طويل نسبياً، ويلحظ كذلك أنه التهم جزءاً كبيراً من موازنتها العامة، خلافاً لاعتقاد القيادتين السياسية والعسكرية أن عملية الحسم العسكري ربما لن تأخذ الوقت الطويل.
قبل سنوات تسبق حربها على أوكرانيا، لم تكن ميزانية الدفاع الروسية كبيرة ولم تحتل حتى المراتب الخمس الأولى على مستوى العالم، مع أنها الثانية من حيث القوة العسكرية بعد الولايات المتحدة التي تخصص موازنة عسكرية ضخمة جداً تتجاوز 750 مليار دولار.
بسبب الحرب ورغبة في وقف تمدد حلف «الناتو» شرقاً نحو الحدود الروسية، تبدلت عقيدة الأخيرة ودفعت باتجاه تجديد سلاحها وإدخال أسلحة حديثة وأكثر تطوراً، يشمل ذلك بطبيعة الحال توفير غطاء سياسي ومادي لتمكين الماكينة الحربية الروسية.
غير أن تحديات كثيرة من شأنها أن تؤثر على روسيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، خصوصاً إذا طال عمر الصراع مع أوكرانيا، ذلك أن الاقتصاد الروسي ليس بالقوة الكافية التي تمكنه من تجاوز حرب مكلفة جداً وفي إطار اقتصاد عالمي غير مستقر ويعاني من الغلاء والتضخم.
مشكلة الاقتصاد الروسي أنه يعتمد بشكل كبير على عائدات النفط والغاز، وكلما تأثرت أسعار المشتقات البترولية سلباً عانى وترنح هذا الاقتصاد، بالإضافة إلى الحصار الغربي الذي تفرضه الولايات المتحدة الأميركية وأتباعها على موسكو.
في هذا السياق، لا يمكن تحقيق تفوق عسكري سوى بإعادة النظر في موازنة الدفاع الروسية، وهو ما تترجمه القيادة باستعدادها لزيادة الموازنة إلى نحو 70% في عام 2024، لتصل إلى حوالي 111 مليار دولار، أي تقريباً ضعف موازنة الدفاع الروسية لعام 2015.
مثل هذا الصرف الزائد على الإنفاق العسكري والجاهزية القتالية من شأنه فتح المجال أمام الكثير من التساؤلات عن الثمن الروسي المدفوع مقابل هذا التحول العسكري، وهل يمكن أن تنهار الدولة الروسية كما حصل في السابق خلال الحقبة السوفيتية وتفكك الاتحاد السوفيتي.
واحدة من أخطر المشكلات التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي آنذاك تتعلق بالصرف الزائد على الإنفاق العسكري على حساب الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، ودعم الحلفاء بالسلاح الروسي وتقسيطه على شكل ديون لم تتحصل أغلب الوقت.
بالتأكيد أي زيادة في الموازنة الدفاعية الروسية ستكون على حساب النفقات في قطاعات أخرى تتعلق بالتعليم والسياسة الاجتماعية والرعاية الصحية، وهذا الأثر قد يشكل ضغطاً كبيراً على البيئة الداخلية ويجعل البلاد أمام صراع مع التحديات الخارجية والداخلية.
كذلك مسألة حماية ودمج المناطق الأوكرانية التي سيطرت عليها موسكو، مثل لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا، ستضيف أعباءً على الاقتصاد الروسي، ناهيك عن تحديات تباطؤ الاقتصاد العالمي خلال العامين الحالي والمقبل.
حتى لا تقع روسيا في فخ الفشل من الداخل، تحتاج إلى تمكين اقتصادها بالطريقة التي تقلل فيها من الاعتماد على الواردات، والتوجه نحو تنويع الصناعات والاستثمار في القطاعات الصناعية التكنولوجية وفتح أسواق جديدة للسلع الروسية.
أيضاً تحتاج موسكو إلى إعادة النظر في طبيعة هذا الصراع مع أوكرانيا وفتح جبهات حرب بالوكالة في بؤر أخرى غير البؤرة الأوكرانية، حتى تعمل على نفس السياسة التي يعتمدها الغرب من حيث استنزاف القدرات العسكرية والصناعية الروسية.
والأهم أن على القيادة الروسية أن تنظر بأهمية إلى العامل الداخلي على أنه عامل مساعد لتحقيق تفوق عسكري على الغرب، إذ من غير الطبيعي أن تفتح «ماسورة» الأموال على الإنفاق العسكري، بينما الشعب الروسي غير قادر على تأمين احتياجاته الأساسية.
لا أحد يعلم متى تنتهي هذه الحرب، وبالتأكيد ثمة كلف كثيرة تدفعها موسكو حالياً ولاحقاً، وهي كلف بحاجة إلى ميزان دقيق حتى تلبي الطلبين الداخلي والعسكري. غير أنه من دون مساعدة دول عظمى، مثل الصين وحلفاء آخرين، من الصعب على روسيا الاستمرار الطويل في هذه اللعبة التي تقف خلفها دول عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك