لقد مر نصف قرن على حرب أكتوبر المجيدة، وأتذكر جيدا اللحظة التي علمت فيها باندلاع المعارك، وشعوري حينذاك، وردود الفعل التلقائية بين المواطنين، لذلك أعتبر أن حرب أكتوبر كانت لحظة فارقة في الشرق الأوسط، نتيجة ملحمة لإعادة بناء القوات المسلحة المصرية، وتطوير أداء مصر السياسي، واستعادة الشعب المصري لثقته في النفس، وعودة مصر إلى وضعها الطبيعي ومكانتها المتميزة في الشرق الأوسط.
لا يخفى على أحد أن نكسة 1967 القاسية هزت الشعبين المصري والعربي، ورسخت شعورا غربيا وإسرائيليا زائفا بأن الدولة المعتدية قوة لا تقهر.
وكان الرئيس المصري أنور السادات قد سعى من دون جدوى إلى تحريك عملية سلمية عربية ــ إسرائيلية قبل الحرب، وطرح مبادرات مختلفة من ضمنها، فتح قناة السويس لمرور السفن المدنية في حال انسحاب القوات الإسرائيلية 50 كيلومترا شرقا، وأوفد مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل لمقابلة هنري كيسنجر سرا في باريس ونيويورك عام 1973، إلا أن الجانبين الإسرائيلي والأمريكي لم يأخذا المبادرة بجدية وشككا في قدرة مصر والعالم العربي على تحريك الأمور، بخاصة بعد أن طلب السادات من الخبراء الروس مغادرة البلاد قبل ذلك بعام، ما خلق توترا بينه وبين القيادات الروسية المورد الرئيس للسلاح المصري. وتقتضي الأمانة الاعتراف أيضا بأن الشك في إمكان تحريك الجبهة لم يكن شعورا بعيدا مني وأنا في السنة النهائية من دراستي الجامعية، أو من غالبية الشعب المصري بمختلف فئاته، الذي كان لا يزال متأثرا بتداعيات شعبية ومعنوية قاسية لحرب 1967، على الرغم من الجهود الذي بذلت والتضحيات في حرب الاستنزاف، بل إنه كان شعورا سائدا ومنتشرا إقليميا ودوليا.
في ظل هذه الظروف الصعبة، أخذ أنور السادات القرار الشجاع والصائب ببدء حرب 1973، وخطط بحكمة لشن حرب محددة الأهداف العسكرية بالتنسيق مع سوريا، من أجل غربلة المعادلة السياسية، وتهيئة المناخ لإجراء مفاوضات عربية ــ إسرائيلية، متطلعا أن تنتهي حتما بإعادة الأراضي المصرية المحتلة، وبسلام عربي ــ إسرائيلي شامل، وبتلبية الطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني.
قرار الحرب يحسب لأنور السادات بشجاعته وحكمته رغم أنف كل المضللين.
وعلى الرغم من القلق الأولي مع اندلاع المعارك، أعادت الحرب الثقة للشعبين المصري والعربي، نتيجة الدور البطولي للقوات المسلحة المصرية الباسلة، تحت قيادة المشير أحمد إسماعيل، وجهد وتضحيات لا تنسى لضباطها وجنودها، من أعلاهم رتبة إلى أصغر جندي. قوات قهرت حائط بارليف المنيع، وكسرت شوكة الغرور الإسرائيلي، بأداء عسكري رفيع فاق كل التوقعات. قوات انطلقت حبا للوطن، مضحية من أجل ترابها، رغم علمها بالتحديات والصعوبات والقلق الذي كان سائدا عن تأمين السلاح الكافي والملائم للعمليات العسكرية.
وفاق الأداء العسكري المصري كل التوقعات الدولية والإسرائيلية، كما كشفته المحاضر والمستندات الإسرائيلية التي تم الإفراج عنها حديثا بمناسبة مرور 50 عاما على الحرب، التي أوضحت أن إسرائيل كانت تتابع وملمة بالتحركات العسكرية المصرية، وإنما خلصت الأغلبية من قياداتها إلى أن المصريين لن يقدموا على الحرب لعدم ثقتهم في النتائج المرتقبة، في ظل الشعور المصري الجارف بالتفوق العسكري الإسرائيلي.
وأعاد قرار الحرب والأداء العسكري المصري البطولي إلى مصر مكانتها في الساحتين الإقليمية والدولية، ومع قرب نهاية الحرب استقبل الرئيس الأمريكي نيكسون، إسماعيل فهمي مبعوثا عن السادات ووزير الخارجية بالإنابة حينذاك، وأبلغه نيكسون أن مصر أثبتت أنها محرك رئيس واستراتيجي في المنطقة، وأن الولايات المتحدة ستعاملها على هذا الأساس. بل خرق نيكسون كل القواعد البروتوكولية وصاحب الوزير المصري إلى سيارته تقديرا لمصر وشخصه، وكلها دلالات على أن الحرب المجيدة غيرت الواقع في الشرق الأوسط والمنظور الوطني والدولي لمصر والعالم العربي.
حرب أكتوبر كانت عملا عسكريا مبدعا بغرض بدء عملية سلام تفاوضية، وأول خطوة في عملية السلام كانت أول طلقة نيران عسكرية، وأول قفزة لجندي مصري لعبور قناة السويس، وذلك ليس كلاما مرسلا أو عاطفيا، لأن بدء المفاوضات المجدية يتطلب إقناع الطرف الآخر بأن مغبة عدم التفاوض أصعب وأكثر بكثير من الشروع في هذا الجهد، وهو ما نجحت فيه القوات المسلحة المصرية.
ومن أهم أهداف وإنجازات حرب أكتوبر كان إنهاء الغرور الإسرائيلي السياسي، بأنها قادرة على استمرار الاحتلال وتجاهل حقوق مطالب الدول العربية، وإدراك الولايات المتحدة أن استمرار النزاع العربي ــ الإسرائيلي سيكون له تداعيات مباشرة على الساحة الدولية، وفرضت الحرب محور المفاوضات خيارا وسبيلا.
اشتعلت المعارك والصدامات الدبلوماسية بعد اندلاع العمليات العسكرية مباشرة، لاختيار الموعد المناسب لقبول وقف إطلاق النار، وتعديل بعض التجاوزات الإسرائيلية عقب وقف إطلاق النار بغية الإضرار بالمواقع والقوات المصرية إلى تبادل الأسرى، وفك الاشتباك بين القوات على مراحل. وبدأ مؤتمر جنيف الأول في ظل مناخ دولي متغير بين القطبين السوفيتي والأمريكي، ورغبة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر تجنب عملية سلام حقيقية، واهتمامه وتفضيله ضبط الإيقاع والاستقرار فقط، بما يمكن الولايات المتحدة من التركيز على العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، هذا فضلا عن انحيازه لإسرائيل، وهو ما تطلب حنكة دبلوماسية مصرية وتوازنات دقيقة مع كل منهما، حفاظا على استقلالية القرار المصري، وتأمينا للمصالح المصرية، وهى معارك أديت بكفاءة عالية، تحسب للدبلوماسية المصرية بقيادة إسماعيل فهمي وزير الخارجية من 1973 – 1977، والدبلوماسيين في مؤسسة وزارة الخارجية العريقة، الأمينة دائما على المصلحة المصرية والمخلصة في المحافظة على سيادتها.
سمحت لي الظروف بمتابعة تلك المرحلة من قرب وبشكل مباشر، وشكلت لحمة العمل الاستراتيجي المصري المشترك والتعاون العملياتي والتنفيذي، والاحترام المتبادل بين قيادات ومؤسسات الدولة المختلفة، كل من زاويته وخبراته، ومناقشات عدة وآراء مختلفة حول أفضل سبل التحرك العسكري والسياسي والدبلوماسي لتحرير الأراضي المصرية وهو ما تحقق، وجهود مضنية للتوصل إلى سلام شامل، تتعثر للأسف نتيجة التزمت الإسرائيلي، وظل الاحترام والتقدير قائمين بين القيادات المصرية حتى بعد استقالة وزير الخارجية المصري، لقناعته أن إسرائيل تحاول التفرقة بين العرب بما يسمح لها تجنب استحقاقات السلام العربي – الإسرائيلي.
تحية لأبطال مصر سياسيين وعسكريين ودبلوماسيين، ورحم الله من فقدناهم أثناء المعارك أو عبر السنين. وتحية للشعوب العربية التي ساهمت بقوة في هذا النصر، وتحية للشعب المصري النبيل في هذه الذكرى الخالدة لحرب مجيدة غيرت الواقع وشكلت المستقبل.
{ وزير الخارجية
المصري السابق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك