بدعوة كريمة من مركز يفجيني بريماكوف للتعاون الدولي شاركت في النسخة الثالثة من المؤتمر الدولي الثالث بعنوان «روسيا والشرق الأوسط: البحث عن عالم جديد» وذلك بمدنية سانت بطرسبرج الروسية خلال الفترة من 27 إلى 30 سبتمبر 2023، المؤتمر ضم عدداً كبيراً من الباحثين والخبراء من الجانب الروسي وعددا من دول الخليج العربي والدول العربية الأخرى والشرق أوسطية، وقبيل بدء جلسات المؤتمر كان هناك جلسة افتتاحية تضمنت الحديث عن مضامين التحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من عقد سواء السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية وماذا أسفرت عنه من نتائج إيجابية سواء بالنسبة إلى أطراف تلك المنطقة أو للدول الكبرى، وفي الوقت ذاته ما أوجدته من تحديات أمام تلك الدول وكيفية إسهام الدول الكبرى في مواجهتها.
تضمن المؤتمر وفقاً للأجندة المعلنة سبع جلسات تناولت التحولات الاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتأثيرها على صياغة نظام اقتصادي عالمي جديد، ومنع الانتشار النووي في المنطقة، ثم علاقات روسيا مع دول الخليج العربي في مجال الأمن غير العسكري، وكذلك علاقات روسيا مع اليمن والعراق والجزائر وإيران.
مناقشات المؤتمر وبوجه عام فقد استهدفت الإجابة على ثلاثة تساؤلات الأول: ما طبيعة التحولات التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن؟ والثاني: ما التحديات الأمنية التي تواجه دول المنطقة؟ والثالث: ما آفاق الدور الروسي تجاه قضايا المنطقة ومعوقاته؟
وبداية أجمعت الآراء على أن أبرز التحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط هي في الجانب الاقتصادي من حيث ولوج القوى الآسيوية إلى معادلة التفاعلات الاقتصادية وخاصة التعاون في مجال الطاقة مع الصين وروسيا والاستثمارات، من ناحية ثانية توجه بعض دول الخليج والدول العربية الأخرى وبعض دول الجوار إلى نيل عضوية المنظمات الاقتصادية المرموقة مثل البريكس وشنغهاي لما تتضمنه من مكاسب مهمة على المديين القريب والبعيد، بالإضافة إلى ظهور مجموعات عمل إقليمية تضم دولاً إقليمية وأخرى على المستوى العالمي لمواجهة تحديات مثل الأمن الغذائي وجميعها مؤشرات تعكس حقيقة مؤداها أن التعاون الإقليمي أضحى خياراً حتمياً بسبب التطورات العالمية التي تلقي بظلالها على منظومة الأمن الإقليمي بأسرها، إلا أنه على الجانب الآخر لا يمكن الفصل بين تلك التحولات الاقتصادية ومنظومة العلاقات الدولية ذاتها والتي فرضت تأسيس شراكات وتحالفات في هذا الاتجاه أو ذاك.
ومن الاقتصاد إلى الأمن، فعلى الرغم من إجماع المناقشات على وجود تهديدات مشتركة تواجه كل دول المنطقة ومنها آثار التغير المناخي ومكافحة التطرف والإرهاب والانتشار النووي فإن مشاركي دول الخليج العربي قد أوضحوا خصوصية التهديدات الأمنية التي تواجه المنطقة سواء تهديدات الأمن البحري أو التهديدات السيبرانية وتحدي إدارة الأزمات والكوارث وخاصة حال حدوث تسربات نووية من المفاعلات النووية في دول الجوار والأمن الغذائي ومتطلبات نقل التكنولوجيا العسكرية واستمرار الأزمات الإقليمية التي تلقي بتداعياتها على أمن دول الخليج العربي بشكل مباشر ومنها الأزمة اليمنية.
وربما تكون تلك التهديدات معروفة إلا أن الأمر المهم والرئيسي هو طبيعة الدور الروسي لمواجهة تلك التحديات، بمعنى آخر وبشكل أكثر دقة هل العودة الروسية لمنطقة الشرق الأوسط هي خطوة استراتيجية أم أنها سياسة ترتبط بالظروف الراهنة؟ المؤشرات الراهنة تعكس وجود أسس مهمة لتطور العلاقات الروسية مع دول الخليج العربي ومن ذلك انعقاد الجولة السادسة من الحوار الاستراتيجي بين روسيا ودول الخليج العربي في يوليو 2023 والاتفاق على إطلاق خطة عمل مشتركة للتعاون بين روسيا ودول الخليج خلال الفترة من 2023-2028، فضلاً عن التعاون الاقتصادي وفي الإطار الإقليمي هناك تعاون روسي سوري وثيق في المجالات العسكرية بالإضافة إلى التعاون بين روسيا وإيران في مجال بناء المفاعلات النووية، والتعاون بين روسيا والجزائر وجميعها مؤشرات مهمة للتعاون بين روسيا ودول المنطقة والذي لا يعد نتيجة للحرب في أوكرانيا فروسيا كانت دائماً لديها مجالات تعاون مهمة في المنطقة سواء خلال حقبة الاتحاد السوفيتي أو بعدها، فعلى سبيل المثال أرسلت روسيا سبع قطع بحرية لتأمين ناقلات النفط الخليجية خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات في الوقت الذي أعلنت فيه إدارة الرئيس ريجان تأسيس تحالف بحري دولي للغرض ذاته، وتمويل روسيا بناء السد العالي في مصر، بالإضافة إلى كون روسيا هي المورد الأساسي للقمح لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ومع أهمية ذلك الدور فإن ثمة متطلبات أخرى لتطور العلاقات الروسية مع دول منطقة الشرق الأوسط عموماً ودول الخليج العربي على نحو خاص، أولها: مضامين المبادرات الأمنية الروسية تجاه منطقة الخليج العربي ومدى ملامستها للاحتياجات لدول الخليج العربي وخاصة نقل التكنولوجيا ومواجهة التهديدات السيبرانية وسبل مواجهة الكوارث وخاصة البحرية منها، وثانيها: كيفية تحقيق روسيا التوازن في علاقاتها مع دول الخليج العربي وإيران حتى في ظل التطورات الجديدة بين المملكة العربية السعودية وإيران فلا تزال هناك تحديات، وثالثها: رؤية روسيا لتهديدات الأمن الإقليمي وخاصة في اليمن وغيرها من الأزمات الإقليمية الأخرى التي تؤثر في أمن الخليج العربي والأمن الإقليمي.
ولا شك أن هناك تحديات تواجه تطور العلاقات الروسية مع دول الشرق الأوسط عموماً منها أن تلك المنطقة تشهد تنافساً دولياً مع قوى أخرى منها الصين والهند وشركاء المنطقة من الدول الغربية بما يعنيه ذلك من أنه لابد أن تعكس السياسات الروسية هدف الشراكات الاستراتيجية طويلة الأمد التي تتضمن جوانب متعددة وخاصة في ظل تشابك كل القضايا في الوقت الراهن، من ناحية ثانية وفي ظل سعي تلك الأطراف الدولية لتوظيف مفهوم القوة الناعمة فإن هناك حاجة لروسيا إلى ترسيخ التبادل الثقافي والتعليمي من أجل ترسيخ التعاون بين الشعوب، من ناحية ثالثة مدى قدرة روسيا على الإسهام في حل الأزمات الإقليمية بالسبل السلمية من خلال علاقاتها بأطراف الصراع في تلك الأزمات أو داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة.
وفي تقديري أن المؤتمر كان فرصة مهمة للتعرف من قرب على السياسات الروسية من خلال وجهات نظر عدد من الخبراء في مؤسسات فكرية روسية وكذلك رؤى باحثين في دول الجوار لدول الخليج العربي وتحديد قائمة التهديدات الأمنية لدول الخليج العربي في الوقت الراهن، صحيح إنه من الصعب مناقشة كل القضايا في وقت محدود ولكن فكرة الحوار الصريح والمباشر بين باحثين من دول مختلفة تعد أبرز مخرجات ذلك المؤتمر الذي شهد تنظيماً متميزاً من جانب باحثي وموظفي مركز بريماكوف بما أتاح الفرصة لمناقشات ثرية حول دور روسيا في تحولات المنطقة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك