بعد مرور خمسة أيام على بداية معركة «طوفان الأقصى»، يواصل المراقبون في الساحة الإسرائيلية طرح الأسئلة عمن كان مسؤولاً عن هذا الفشل الاستخباراتي فيما يمكن تسميته «يوم الرعب» في الجهاز الأمني لدى الاحتلال، وفي الوقت ذاته سوف تستمر المحاولات الإسرائيلية في الهروب من مواجهة الاستحقاق الذي فرضته المقاومة من خلال إسقاط استراتيجيتها المطبّقة في قطاع غزة، وقد انهارت عند الساعة الأولى لاقتحام مقاتلي الحركة للحدود الفلسطينية شرق قطاع غزة.
لقد كشف تنفيذ الهجوم المفاجئ للمقاومة أن المفهوم الإسرائيلي الذي ساد في الشهور الماضية، قام على فرضيات تضليلية مفادها أن حماس ضعيفة، ومردوعة، وتنشغل بظروف غزة المعيشية والحياتية، ولكن تبين أنه خطأ وغير حقيقي، بل إن إسرائيل متوهّمة، وأثبتت مشاهد اقتحام المقاومين لمستوطنات غلاف غزة أننا أمام مقاومة عنيدة، لم تحِد عن مبادئها، ومخلصة لما ترفعه من شعارات، وتتبناه من قناعات.
لقد أكدت هذه العملية أن الدعوات الإسرائيلية للقضاء على المقاومة من خلال عمليات برّية في قلب قطاع غزة ليس لها رصيد كبير من الواقع، رغم ما قد تجلبه من أثمان بشرية باهظة ومكلفة من المدنيين، لكن الاحتلال قد يلجأ إليها بعد فشل محاولاته لترويض المقاومة بعدة طرق: التفاوض، والتوسط، والإيماءات، وكذلك القصف، وفي الوقت ذاته أوهم نفسه أن الأمور تحت السيطرة، وأنه يفهم مبرراتها، وأنه ذكي بما يكفي، وقادر على توقع تحركاتها المقبلة، لكن وقائع الأيام الأخيرة أن الاحتلال لا شيء مما ذكر.
كثير من الدعوات الإسرائيلية البائسة خرجت في الساعات الأخيرة، في محاولة يائسة لاستعادة ردع مفقود، بدّده فرسان المقاومة على مشارف مستوطنات غلاف غزة، لكن أكثر الدعوات انتشارا تمثلت بالدعوة لاقتحام أراضي القطاع، وإعادة احتلالها بالكامل، بزعم ملاحقة عناصر المقاومة، واستنزافهم، والقضاء على بناهم التحتية المسلحة.
مع العلم أنه كان واضحاً منذ اللحظة الأولى أن الاحتلال في جميع الحروب والعدوانات الماضية بين عامي 2006-2014 لم يكن مستعدا لتحمّل الثمن الذي ستفرضه عليه مثل هذه الخطوة، ولسوء حظ الاحتلال فإن هذا ينطبق أيضاً على أكتوبر 2023.
بانتظار عثور الاحتلال على حلّ سحري ينقذه من «المغامرة العسكرية» و«الورطة البرية»، فإنه سيبقى يعضّ أصابعه ندماً على ما تحقق من فشل استخباراتي سيبقى محفورا في ذاكرة الفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ سواء، بما يعنيه ذلك من اعتراف صريح واضح بأن المفاهيم البائدة التي زرعتها أجهزة الأمن طوال سنوات ماضية عن تشخيص المقاومة، وتفسير نواياها، ظهرت على حقيقتها سرابًا ووهماً وحملاً كاذباً، ما يستدعي الاعتراف بالخطأ الذي كبّد الاحتلال ثمناً باهظاً، بشرياً وأمنياً وعسكرياً وردعيّا.
فلم تستفيق أوساط الاحتلال من صدمتها التي أصيبت بها عقب اقتحام المقاومة المفاجئ لمستوطنات غلاف غزة، وقتل وإصابة وأسر المئات من المستوطنين والجنود والضباط الكبار، على اعتبار أننا أمام حدث غير مسبوق، واستهداف نوعي، سيكون له المزيد من التبعات والآثار على مختلف الأصعدة: فلسطينياً وإسرائيلياً.
إن أي تقييم إسرائيلي لما حصل في «طوفان الأقصى» يستدعي الانطلاق من محددات علمية مجردة تقوم على الأرقام والإحصاءات، تحكي خسائر الاحتلال على مستوى القتلى والجرحى والأسرى، وهي في مجموعها تفيد بأنها خسائر كبيرة، وتبقى المقاومة الفلسطينية تتمتع بميزة أنها تؤلم الإسرائيلي، وتجبره على دفع ضريبة مهمة لاحتلاله، خاصة في الجانب البشري من قتلى وجرحى.
في الوقت ذاته، فإن ما شهدته مستوطنات غلاف غزة من جولات ميدانية في وضح النهار يعني عدم بقاء الفلسطينيين وحدهم يدفعون الثمن، ويتلقون الخسائر، أو يبقون الوحيدين يدفعون فاتورة التضحيات البشرية والمادية والمعنوية، ما يعني إمكانية تحقيق توازن «ما» في الخسائر البشرية، رغم أن الأهم يتمثل في قراءة الاحتلال لما يقع خارج الأرقام، ويسهم بفاعلية في رسم وقائع الفترة القادمة. لم يكن خافياً على أحد أن المقاومة تحضر لمفاجأة الاحتلال بمستوى ونوعية غير مسبوقين من العمليات التي نفذتها سابقاً، لكن لم يخطر ببال أحد من الإسرائيليين أو الفلسطينيين وقوع عملية من هذا النوع، وبمثل هذه الكفاءة والقوة، إلى الدرجة التي دفعت جيش الاحتلال مجددًا لاستخدام أساليب ثبت فشلها.
عوامل عديدة يمكن استخلاصها من نجاح القسام في إنجاز عمليته البطولية في مستوطنات غلاف غزة، لعل أولها التخطيط الدقيق لتنفيذها، وثانيها استهداف مواقع جيش الاحتلال، ما أسفر عن قتل وجرح عدد من كبار الضباط، وثالثها اقتحام المستوطنات بشكل غير مسبوق، ورابعها خوض مواجهات عسكرية مباشرة مع قوات النخبة في جيش الاحتلال. لقد أكدت عملية طوفان الأقصى أن المقاومة برهنت أنها لا تزال قوية وقادرة على ردع الاحتلال، وتتمتع بخاصية التجدد والتنوع، وتمتلك الكثير من الخبرات والمهارات، وقادرة على ضرب الاحتلال في أماكن موجعة، واستهداف بنيته العسكرية، بينما يكون ردّه عبر استهداف المدنيين. في المقابل، فقد كشفت هذه العملية عن حجم الهزيمة التي اعترف بها جنرالات جيش الاحتلال، وكبار خبرائه العسكريين، وتأكيدهم أن ما تم يمثل انكسارًا إسرائيليًا حقيقيًا أمام المقاومة، وشكل بنظرهم تآكلًا لقوة الردع العسكرية، لأن الفلسطينيين تجرأوا على دولة الاحتلال التي استطاعت أن توفر قوة ردع أمام الجيوش النظامية العربية طوال أكثر من نصف قرن من الزمن.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك