فوجئت إسرائيل بالصواريخ تسقط على مدنها قادمة من غزة. عرف العالم كيف يحتال على الحقيقة. لم تخجل دول كبرى من إعلان اصطفافها وراء الدولة العبرية. أما حين صارت دول تدعو إلى التهدئة ووقف التصعيد فإنها بالغت كثيرا في حيادها. فلا حركة حماس دولة ولا إسرائيل يمكن أن تكون في لحظة استضعاف لكي يشد الآخرون من أزرها.
بالرغم من الاتفاقات الدولية فإن إسرائيل لم تكف عن ممارسة العنف في حق الفلسطينيين ولا تشعر بأنها في حاجة إلى تفسير ذلك العنف الذي هو جزء أساس من جوهر علاقتها بسكان الأرض الأصليين الذين شردتهم بعد أن صادرت أراضيهم وهي مستمرة في ملاحقتهم والاستيلاء على أي أرض فلسطينية يقيمون عليها. وهي في ذلك إنما تتعامل معهم باعتبارهم شعبا مستضعفا أدار العالم له ظهره ولم يقبل بهم إلا لاجئين من أجل إبعادهم عن فلسطين التي ينبغي عليهم أن ينسوها كما مُحيت من الخرائط التي صار المجتمع الدولي يعتمدها.
ولأن الفلسطينيين نجحوا عبر السبعين سنة الماضية في الحفاظ على هويتهم، بل إنهم قاوموا إسرائيل وفي الوقت نفسه قاوموا العالم ولم يسمحوا له بشطبهم من المعادلة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، فقد رفضت الدول الكبرى الداعمة لإسرائيل وهي التي تهيمن على العالم أن تعتبرهم ضحايا بقدر ما اعتبرتهم إرهابيين.
قد يقال إن الفلسطينيين لم يكونوا هذه المرة مضطرين إلى إشعال حرب جديدة. ما من حدث مباشر يستدعي ذلك الرد الانتحاري الخارق. في ذلك القول الكثير من التبسيط لما يجري يوميا على الأرض من جرائم تُرتكب في حق الشعب الفلسطيني أمام أنظار العالم. إسرائيل لا تقوم بأعمالها العدوانية في الخفاء. فهي مطمئنة إلى أن كل ما تقوم به هو من وجهة نظر العالم محاولة للدفاع عن النفس. الدولة التي هي عبارة عن ترسانة للأسلحة النووية تدافع عن نفسها في مواجهة شعب أعزل. شعب لا يملك أبناؤه أمامهم سوى أن يكونوا فدائيين. لا يتعلق الأمر بمزاج عدمي يضع الانتحار في مقدمة الحلول في مواجهة حياة يائسة، بل نتيجة لا يرقى إليها الشك تؤكد أن ما من شيء سيكون في هذه الحياة من غير الإقدام على تضحيات مهلكة.
ليس الشعب الفلسطيني في وضع تتعدد فيه الخيارات. لقد سدت إسرائيل أمامه كل الطرق وليس في إمكانها أن تتعامل معه في سياق قانوني. لم يؤمن الشباب الفلسطيني بحل التضحية بالنفس إلا حين صاروا على يقين من أن القانون لن يجد له حيزا في علاقة إسرائيل بهم وهي علاقة تقوم على الاستعباد والاستبعاد والنفي والعزل والتنكيل والتمييز. في كل لحظة عنف فلسطيني تكون إسرائيل هي السبب. أما النظر إليها باعتبارها ضحية بريئة فإن ذلك يعبر عن أسوء ما وصل إليه المجتمع الدولي من تدهور على صعيد قيمه الإنسانية والأخلاقية.
عبر سبعين سنة لم تحترم إسرائيل القانون الدولي، بل إنها لم تلتزم بالاتفاقات التي وقعتها مجبرة مع الفلسطينيين. لو كانت إسرائيل جادة في اتفاق أوسلو لكانت الأمور قد تقدمت في حياة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ولما كان الفلسطينيون في حاجة إلى اختراع حركة حماس واقتطاع غزة ولما دخلنا في المتاهة الإيرانية.
كان كل شيء ميسرا في مقابل تخلي منظمة التحرير عن جزء من ثوابتها بعد اعترافها بإسرائيل. ولكن إسرائيل أبت سوى أن تتمسك بسياستها القائمة على رفض حق الفلسطينيين في العيش بسلام ضمن إطار دولة مستقلة ذات سيادة هي جزء من فلسطين التاريخية. لقد قبل الفلسطينيون مضطرين بالحل الذي فرضه العالم الذي انصاع لإرادة إسرائيل التي تبين فيما بعد أنها غير مستعدة لتنفيذه لأنها لا تؤمن به.
من السذاجة القول إن ما يُسمى بالمجتمع الدولي خائف على إسرائيل، بل إنه حانق عليها لأنها سمحت للفلسطينيين بأن يفاجئوها هذه المرة ويكبدوها خسائر لم تتوقعها ويهزوا أسطورة سيطرتها الأمنية. كما إن فكرة أن الفلسطينيين لن يستطيعوا تطوير قدراتهم الهجومية وقد صارت من الماضي ينبغي أن تدخل في صلب المعادلة السياسية التي يفكر المناصرون لإسرائيل في أنها استقرت لصالح صنيعتهم. ما أحدثته الصواريخ التي سقطت على المدن الإسرائيلية من خلخلة في طريق التفكير ينبغي أن تأخذ طريقها إلى التفكير بطرق أخرى من أجل الوصول إلى وطن فلسطيني لم يتخل عنه الفلسطينيون ولن يكون له بديل.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك